نجلاء العتيبي
في عصر يعُجُّ بالصخب الرقمي، باتت السوشيال ميديا مسرحًا للأوهام البصرية والسطحية، حيث تتسابق منصاتُها لاحتلال الأوقات والعقول، وبينما كان الشبابُ يومًا وقودَ النهضة الفكرية والعلمية أضحوا الآن أسْرى انبهارٍ غير مُبرَّرٍ بالتفاهات التي تُقدِّمها بعض تلك المنصات.
إن هذا الانبهار لا يعكسُ إلا قصورًا معرفيًّا، وفراغًا روحيًّا، ونقصًا حادًّا في تقدير الجوهر على حساب القشور، وفي زحام هذا العالم الافتراضي تبرز التفاهة كملك مُتوَّج تتجسَّد في محتوًى عديم القيمة، يتراقصُ على أنغام التحديات التافهة أو في مقاطعَ لا تحمل إلا المبالغات والإثارة، هذا النوع من المحتوى الذي يجذب ملايين المشاهدات يُسقِط معايير المنطق، ويعكسُ ثقافةً تزداد سطحية يومًا بعد يومٍ كيف يمكن أن نلوم جيلًا بأكمله إذا كان الأبطال الذين يُحتفى بهم اليوم هم مَن يُتقنون تسخير التفاهة؛ لتحقيق الشهرة والثراء!!
فالشباب بعنفوانهم وطموحاتهم هم أكثر الفئات تأثرًا بهذه الظاهرة، يجدون أنفسهم محاصرين بواقع يُعزِّز قيم الاستهلاك السريع، والإعجاب الفوري؛ فتنغمس عقولهم في عالم يخلو من العمق، حيث يُقاس النجاح بعدد المتابعين والإعجابات بدلًا من التأثير الحقيقي أو الفكر المثمر، هذه الثقافة السطحية لا تقفُ عند حدود تغييب الأولويات، بل تمتدُّ لتزرع شعورًا مستمرًّا بعدم الرضا؛ إذ يُقارن الشاب يوميًّا بحياة مثالية مزيَّفة تُعرَض على المنصات؛ ما يُضعف ثقته بنفسه ويدفعه نحو تقليد ما لا يعكس هويته أو قِيمه.
ومما يزيد الطينَ بلَّة أن هذا الانبهار لا يقتصرُ على مجرد الاستهلاك السلبي، بل يتجسَّد أيضًا في رغبة الكثيرين في تقليد نجوم السوشيال ميديا، فلم يعُد الغرض هو الإبداع أو تقديم قيمةٍ مضافةٍ، بل تحقيق شهرة سريعة، وهكذا تذوب الفروق بين الجوهري والهامشي، ويصبح التافه معيارًا للمكانة الاجتماعية.
أما على مستوًى أعمق؛ فإن تأثير هذا الانبهار يمتدُّ إلى تشكيل العقول، وتغيير الأولويات؛ فيُبعَد الشباب عن القضايا الحقيقية التي تستحقُّ التفكير والعمل، مثل: التعليم، والتنمية، والإبداع، ويجُرُّهم نحو عالَمٍ من الوهم والسطحية، والأخطر من ذلك؛ أنه يُعزِّز ثقافة الكسل الفكري، حيث يُصبح التفاعل السطحي والبحث عن الإشباع اللحظي بديلًا عن التفكير العميق والعمل الجاد، وسط هذا الواقع المظلم تبرُزُ ضرورة ملحَّة لإعادة النظر في كيفية تعاملنا مع السوشيال ميديا.
والحل لا يكمُنُ في مقاطعتها، فهي باتت جزءًا من نسيج الحياة الحديثة، ولكن في كيفية استخدامها بوعيٍ، يجب أن يتعلَّم الشبابُ التمييزَ بين ما هو عابر وما هو دائم، بين ما يستحقُّ الوقت والاهتمام، وما هو مضيعة للجهد، عليهم أن يستعيدوا ملكة النقد، وأن يدركوا أن القيمة الحقيقية لا تُقاس بكمية التفاعل، بل بنوعية الأثر الذي يتركونه في العالم من حولهم.
إن السوشيال ميديا بما تحمله من قوة هائلة سلاحٌ ذو حدَّينِ، لكن الأمر بأيدينا مازال؛ لنقرر كيف نستخدمها، فلنُعِد تعريف الانبهار ليصبح انبهارًا بالإبداع، والفكر، والعمل المثمر، بدلًا من الوقوع في شِراك التفاهةِ التي لا تُورِثُ إلا الفراغ.
ضوء
إن الخروج من دائرة الانبهار بالتوافه يبدأ بإعادة ترتيب الأولويات، والبحث عن العمق وسط هذا الزخم السطحي.
فالعقول التي تبقى أسيرةً للسطحية تُهدِر طاقتها دون أثرٍ يُذكَر، بينما العقول التي تبحث عن المعنى هي التي تصنعُ الفرق.