د. ناهد باشطح
فاصلة:
«في قلب كل مدينة سر لا يقال، لكننا نعيشه حين نضيع في شوارعها بلا هدف»
-البير كامو-
تُسمى فكرة ارتباط الناس بالأماكن عاطفيًا بـ«ارتباط المكان» «Place attachment»
ويُحب الناس مكانًا ما أو يكرهونه لأنه يُشعرهم بشعور معين، والناس لا يشعرون بالارتباط بالأماكن بسبب عمرها، أو أهميتها، أو ارتباطها بشخصيات وأحداث تاريخية وإنما كما تقول الأبحاث، بأن وصف الناس ارتباطهم العاطفي بمكان يرتبط بالإشارة إلى تجاربهم الخاصة، والمشاعر أو «الأجواء» التي يولّدها الموقع، والمعنى الذي يجدونه فيه، قد لا يهتم الناس باسم الطراز المعماري للمكان أو تاريخ بنائه بقدر ما يهتمون بتأثيره عليهم.
هذه الأفكار التي وردت في إحدى مقالات الكاتب «ديفيد سيبريت» عن ارتباط الناس بالمقاهي والمطاعم التي أمضوا فيها وقتا جميلا للدراسة، أو لقاء الأهل والأصدقاء جعلتني أسترجع دراستي للماجستير في علم النفس البيئي حين كنا ندرس تصميم المكان وتأثيره على السلوك، وهو ما أفكّر به حين يسألني الناس عن علاقتي العاطفية بمانشستر أو ما يسمى بالحنين المكاني»Topophilia»، وهو الشعور الوجداني تجاه الأماكن التي نحمل لها ذكريات خاصة.
وفي حياة كل منا مدينة أو ربما مدن وأماكن يرتبط بها عاطفيا ويحب أن يزورها باستمرار؛ لأنها تمنحه شعوراً مختلفاً.
عندما ذهبت وأسرتي لدراسة الدكتوراه عام 2008 اخترت مدينة مانشستر وأنا لا أعرفها، وكان الاختيار بناء على موقعها الذي هو وسط إنجلترا مما يعطي الفرصة لبناتي باختيارات أكثر للدراسة في جامعات مانشستر أو ما يجاورها من مدن كليفربول وشيفيلد وليدز.
عشت في مانشستر كطالبة خمس سنوات وحصلت على الدكتوراه من جامعة سالفورد، وكنت وقتها أكتب يومياتي كطالبة في جريدة الرياض وجريدة الجزيرة، ثم جمعت المقالات وأصدرتها في كتاب عام 2024م بعنوان «يوميات مبتعثة».
اليوم، أعود إلى مانشستر بعد سبع سنوات من حفل تخرجي في الجامعة وأختار أن أخصص المقالة الأولى من كل شهر للكتابة عن يومياتي في مانشستر، ولكن بعين أخرى، فالمقهى الذي كنت أرتاده وبين يدي جهاز الحاسوب والأوراق والكتب للدراسة أرتاده اليوم كسائحة أرقب وجوه العابرين، ومانشستر التي كنت كطالبة لا أعرف من شوارعها الا شارع أكسفورد ومنطقة سالفورد التي بها جامعتي، أزورها اليوم فأتعرّف على العديد من مناطقها وأحيائها والقرى المجاورة لها لأستكشف الأماكن الجديدة والحدائق وحتى الشوارع والأرصفة، سوف تكون يومياتي أكثر تأملا لثقافة مانشستر وسكّانها فعين السائح وقلبه مختلفان عن عين الطالب وقلبه!
والتجارب التي تمر بنا في المدن التي ندرس فيها تختلف عن تلك التجارب التي ننغمس فيها كوننا سائحين أو عابرين نصافح المدينة بين وقت وآخر.
كل شيء يبدو مختلفا اليوم في مانشستر التي اختارت أن تكون جزءا من ذاكرتي، وكلنا نحتفظ في ذاكرتنا بمدينة تمنحنا ذاك الصوت المختلف الذي نعشق سماعه، وتلك الرائحة التي تدغدغ مشاعرنا وذياك البريق الذي يخطف أنظارنا.. هي المدن.. المساحة التي تكتبنا دون تزييف.
المصادر: -David Siebert, Place attachment and emotions in heritage: Don»t ignore your feelings, heritagesask.ca, 2023.