تغريد إبراهيم الطاسان
كان «ماجد» يجلس على طرف الأريكة، يتأمل وجهي والديه وهما يتحدّثان عن مستقبله وكأنهما يعرفانه أكثر منه.!
قال أبوه بصوته الواثق: «لا مستقبل بلا شهادة جامعية... الطب أو الهندسة على الأقل».
ردّت أمه مؤيّدًه: «ما أحد يحترمك إذا ما كان عندك شهادة تشرف».
لكن ماجد كان يفكّر في شيء آخر تمامًا.
هو لا يريد الطب، ولا الهندسة، ولا حتى الإدارة.!
يريد أن يُصبح صانع أفلام، يعمل على مشروع رقمي بدأه في الخفاء، ويدرّ عليه دخلًا ثابتًا يفوق أحيانًا ما يتقاضاه خريجو جامعته المحتملة..
لكنه خائف من نبرة خيبة الأمل، ومن نظرة دونية قد لا تُقال، لكنها تُشعَر.!
جلس بينهما صامتًا… ليس لأنه بلا رأي، بل لأنه يعرف أن ما يراه منطقًا، يراه آخرون تهورًا.!
فمنذ متى كانت الموهبة تُقارن بشهادة؟
ومنذ متى كان الشغف يُكافئ عليه المجتمع بالرضا؟
لنتفق ككبار ومتخصصين، أنه في سنوات مضت، كانت الشهادة الجامعية الحلم الأكبر للعائلة والابن معًا..
كانت المعيار الأوضح للنجاح، والبطاقة الذهبية للوظيفة المستقرة، والمكانة الاجتماعية، والقبول المجتمعي.
كانت هي المفتاح الوحيد لعبور بوابة المستقبل، كان الحديث عنها يدور بلغة القداسة، فالطالب المجتهد هو من يُتوّج بمقعد جامعي، ومن ثمّ بمستقبل مضمون..
لكننا لابد أن نؤمن ونعترف أن الزمن تغيّر. والعالم تحوّل عما قبل.
واليوم، بتنا نسأل: هل ما زالت الشهادة الجامعية تحمل نفس البريق؟ أم أنها أصبحت مجرد ورقة مؤطرة على الجدار، لا تمثّل بالضرورة كفاءة ولا تفتح الأبواب كما كانت؟
واقع السوق يقول الكثير.!
نرى خريجين بلا وظائف، وفي نفس الوقت نرى مبدعين بفكر خلاق بلا شهادات شقوا طريقهم باستحقاق، كما ظهر على الواقع العملي مهارات رقمية أصبحت أكثر جدوى من أربع سنوات دراسية.!
فهل أصبح المسار الأكاديمي خيارًا أكثر من كونه ضرورة؟
وهل من العدل أن نقيس المستقبل فقط بامتلاك شهادة جامعية؟
إننا اليوم أمام تحوّل جذري في مفاهيم المجتمع تجاه التعليم..
فلقد أصبح سؤال «ماذا تُريد أن تكون؟» أكثر تعقيدًا من مجرد «ماذا ستدرس؟»، وصار كثير من الطلاب يبدون وكأنهم فقدوا الشغف بالشهادة الجامعية، أو على الأقل لم يعودوا يرونها طريقًا أوحد.!
وهنا يبرز سؤالٌ أكثر إلحاحًا:
هل فقد أبناؤنا الثقة بالتعليم الجامعي، أم أنهم ببساطة لم يعودوا يرونه الوسيلة الوحيدة لتحقيق الذات؟
وهل الشاب في الثامنة عشرة من عمره يملك الوعي الكافي ليقرر طريقه؟
أم أنه ضحية ضغوط الأسرة، وضجيج العصر، وواقع متناقض لا يمنحه فرصة التفكير الهادئ؟
من جهة أخرى، هل قامت الجامعات بدورها في التحديث والتجديد؟
أم أنها ما زالت تدرّس بنفس النماذج، وتخرّج طلابًا بتوقعات لا تتماشى مع السوق؟
هل المشكلة في الشهادة، أم في منظومة التعليم التي تحتاج إلى تحديثات مرنة تواكب متطلبات العصر وتحولاته بعيدة كل البعد عن النمط التقليدي الذي اعتدنا عليه ؟
لا أحد يمكنه إنكار أهمية الشهادة الجامعية، خاصة في بعض التخصصات.
لكن الأكيد أنها لم تعد كافية وحدها، ولم تعد الطريق الوحيد، وربما لم تعد في عيون كثيرين ملهمة كما كانت.
الفلاسفة لطالما تساءلوا: هل نحن من نختار الطريق، أم أن الطريق يُفرض علينا؟
وفي حال الشهادة الجامعية، يبدو أن المسار اليوم لم يعد يُفرض كما في السابق، لكنه أيضًا لم يعد واضحًا بما يكفي ليُختار بثقة.
نحن بحاجة إلى إعادة تعريف التعليم الجامعي، وربطه بالواقع لا بالأمنيات.
نحن بحاجة إلى أن نعلّم أبناءنا كيف يفكرون، لا كيف يرضون الآخرين. أن نمنحهم الأدوات لا القرارات، ونرافقهم في الاختيار لا أن نفرضه عليهم.
ما نحتاجه اليوم ليس فقط شهادة، بل منظومة فكرية تعيد الاعتبار للتعليم بكل أشكاله، وتمنح الشباب أدوات الوعي والتمييز. نحتاج أن نعلّم أبناءنا كيف يختارون، لا ماذا يختارون فقط.
أن نرشدهم ليصنعوا طريقهم، لا أن نرسمه بالكامل لهم.
ففي نهاية المطاف، ليس السؤال: هل الشهادة الجامعية ما زالت مهمة؟
بل: كيف نجعل منها شيئًا ذا معنى في زمن تغيّرت فيه كل المعاني؟