عبدالعزيز صالح الصالح
غريِّب أمر الإنسان أنه يتصور أن حياة الغربة كلها حلوة وليست مرة، فهذا أمر غير صحيح والغريِّب في ذلك أن أمر التناقض الذي يحمله في نفسه من خلال ما يتعرض له في غربته من نكبات خارج حدود وطنه. فالغربة بشكل عام إنها قاسية، والمغترب يحاول بقدر ما يستطيع أن يشق طريقه وسط زحام كثيف، فإنه يترقب ذوبان الجليد واخضرار الأرض وإشراقة نجم حبيب... كل شيء عنده غريِّب: الأرض والسماء والبشر وأعرافهم، وأفراحهم وأحزانهم، ولغاتهم وأساليب حياتهم... أمور عديدة إلى نفسه لكنها غريبة عليه. تسير به المركبة عبر زحام المدينة، ووسط حشود من الخلق، ومن الخلق تكتظ بها الميادين والشوارع الفسيحة والمراكز التّجارية والمباني العالية، الفخمة، فيحس أنه معلق عبر طاحونة لا تكف عن الدوران، أو عبر مياه قوية تندفع إلى شلال لا يتوقف عن الهدير... حيث يلتقي بمجموع غفيرة من البشر يشترون ويسعون ويتفرجون فيتراءى له أن الأعين تحدَّق عليه والأصابع تشير إليه... أنه صقر غريِّب هبط من عالم آخر إلى عالم اختلطت فيه الأصوات، وتنوعت فيه الاشكال، واختلفت فيه المآكل والمشارب. والملابس وموارد المتعة ووسائل اللهو، فقد اختلف الزمان والمكان، واختلفت اللغة والأخلاق والعادات والأمزجة والأذواق، وأمور عديدة أخرى فهناك أمور أحبها وألف إليها وأنس إليها، وأمور أبغضها ورفضها.
وهناك صور من الجمال وأنماط من الحياة تشدك إلى هذا العالم الغريِّب، وهناك صور وأنماط أخرى تتنافر مع طبيعتك وأمزجتك، وتبعث في نفسك من الأسى والحزن والألم ممَّا يجعلك متعلقاً بدينك أوَّلاً ويضاعف من حنينك إلى أرض وطنك وعالمك الذي جئت منه. ولكن لا يستطيع أن يُذيب نفسه في هذا العالم الغريِّب لكن الماء لا يمتزج بالزيت ولا يذوب فيه، ولكنَّه لا يقلد الناس فيما يقولون وما ينطقون وما يفعلون ويحادثهم فيما يشعرون وما يعتقدون، ولكن يبقى في كثير من ذلك كالحجل يقلد مشي الحمام، له قلبه ولهم قلوبهم، له جناحاه ولهم أجنحتهم، ولكل أفقه الذي يطير فيه. ويتصرم الزمان، ويمر شهراً بعد شهر، وتدور الأرض دورتها فيذوب الجليد ويصفو الأفق، وتفرش الشَّمس غلاتها الذهبية على الوجود، وتلبس الأرض حلتها المطرزة الأنيقة فتتفتح الزهور وتينع الثمار، وتتكشف أمواج البحر عن لؤلؤ مكنون، وتتكسر الأضواء فوق قطع البلور تحت أشعَّة الشمس أو في ظلال القمر فتبدو له الدنيا كأغنية حالمة، ولا يبرح حتى يستأنس للطبيعة الوادعة الجميلة، ويألف العالم الحديث ويفرح للدنيا وأخذ يفتح ذراعيه ليعانق الحياة في دعة وحب ويتنفس بعمق بهواء الطبيعة فلا زال يشعر أنه طائر غريِّب له أفقه الذي ينطلق فيه، ويرتاح إليه ويرفرف في أجوائه... وإن صقر الصحراء لا زال صقراً وحمائم السهل حمائم. ويمضي الزمان بخطوات أوسع، فينسى بعض ما كان عليه قبل الرحيل ويلهو عن بعض ولا يكاد ينطوي بعض من الزمان حتى تقرع أجراس أخرى ويحن السندباد إلى ركوب البحر، وفي موسم فصل الخريف، يشرب المغترب كأسه الأولى ويحاول مرة ثانية أن يشربها... سيهاجر، ويركب عبر حصانه الطائر ويعود لكن روحه ستبقى ترفرف هناك في ديار الغربة. حيث إن الطيور لا تطيب لها الحياة إلا في أوكارها.