لن أتحدث عن عبدالله بن عبدالرحمن الزيد المذيع المعروف بنبرته القوية ولغته السليمة وأدائه المتميز في قراءة نشرات الأخبار، ولا عن عبد الله الزيد الكاتب الناقد الذي كتب عدداً من المقالات الأدبية والنقدية، ولا عن عبد الله الزيد الشاعر الذي أصدر عدداً من الدواوين الشعرية وشارك في العديد من الأمسيات الأدبية.
لن أتحدث عن هذا كله مما هو معروفٌ عند عامة الأدباء والصحفيين ومحبي الكلمة والمستمعين إلى إذاعة الرياض والتلفزيون، وإنما سأتحدث عن عبد الله الزيد الإنسان في كرمه ونبله وبره بوالدته وعطفه على إخوته وأخواته وإكرامه لأصدقائه.
سأتحدث عن ذلك الإنسان الذي هجر منتديات السمر ووهج الإعلام إلى بلدة الداهنة الواقعة تحت سلسلة جبال طويق الصامد، ليبقى إلى جانب أمه المريضة في بيتها المتواضع في كل أشيائه إلا من عزة النفس والبر والكرامة، أمِّه التي لزم أقدامها وبر بإقسامها وأسرع الخطو فوق الرملة الطاهرة بين حجراتها حتى فاضت روحها بين يديه.
كانت معرفتي به عندما كنت طالباً في كلية اللغة العربية بالرياض؛ عندما زارني في السكن الجامعي بصحبة الصديق الشاعر حمد العسعوس وكانت الجامعة آنذاك قد استأجرت للطلاب القادمين من خارج الرياض - بموجب صك اغتراب - عمائر المعجل المطلة على شارع البطحاء، وكنت أسكن في ذلك السكن الذي كان نقلة حضارية بالنسبة لنا نحن القادمين من المدن الصغيرة وبيوت الطين، وكان الزيد قد أنهى دراسته الجامعية قبل التحاقي بها، ثم التقيته مصادفة في مستشفى المجمعة القديم مرافقاً لوالدته التي كانت تعاني من مرض السكر وكانت منومة في غرفة مشتركة لا تمكِّن ابنها المرافق من خدمتها، فلفت حديثنا نظر أحد موظفي المستشفى وهو الشيخ حمد العلي التويجري، فقلت له هذا فلان المذيع المعروف في إذاعة الرياض من أهالي الداهنة، ووالدته عندكم في المستشفى، فما كان منه إلا أن سعى في نقلها إلى غرفة خاصة، ثم أبدى استعداده بالمساعدة إذا لزم الأمر. فما كان من عبدالله الإنسان إلا أن أكبر هذه القيمة الإنسانية النبيلة للشيخ التويجري - رحمه الله.
وصار يأتينا في بيت الوالد المجاور للمستشفى عندما لا تكون والدته في حاجة إليه ليرتاح عندي ونتجاذب أطراف الحديث عن الأدب وأخبار كلية اللغة العربية ومدرسيها، وأحياناً يكون عند الوالد ضيوف من أهل البادية فنستمع إلى (سواليفهم) وقصائدهم. وفي إحدى زياراته أهدى لوالدي سبحة ثمينة رمزاً لما يكنُّه لي ولأسرتي من عمق المودة؛ لكنها ضاعت من والدي فأسف عليها أسفاً شديداً لمكانة من أهداها إليه، وكان والدي قد سبق في ماضي السنين أن رأى عبد الله وهو صغير عندما حل ضيفاً على والده وهو الشيخ عبدالرحمن إمام جامع الداهنة.
شُفيت والدته وخرجت من المستشفى إلى بيتها في الداهنة، فعرض عليها أن تذهب معه وتسكن في الرياض فوافقت، وأسكنها في شقةٍ في عمارةٍ في حيٍّ شعبي، لكنها ضاقت بها ذرعاً وقالت يا بني إن مرضي سيتضاعف عليَّ في هذه الشقة وأنا أريد بيتي في الداهنة، أرعى دجاجاتي وأغسل ملابسي وأشرّقها للشمس، فهذا أشرح لي صدراً وآنس لي من هذا المكان، فعاد بوالدته إلى الداهنة وأخلى الشقة وسكن هو في بيت شعبي في منفوحة، كنا تزوره فيه، وكان أكثر ما نزوره فيه يكون بعد الانتهاء من محاضرة في النادي الأدبي فيأبى علينا أن نأكل من مائدة النادي ويقول لا يجتمع الأكل والمحاضرة في مكان واحد، فنذهب معه إلى بيته وهو أعزب ليس عنده في البيت أحد، فما هي إلا لحظات ويدخل علينا بأطباق البروستد التي كانت في تلك الأيام من أفخر الوجبات، ثم نقضي في بيته أمسية أخرى قد تفوق محاضرة النادي.
وأكثر الذين يزورونه في بيته يظنون أنه متزوج ولديه أسرة، لِمَا يرون من نظافة البيت وترتيبه وسرعة تحضيره للشاي ونظافة أوانيه. وكان يدير الجلسة بنفسه ويهتم بالمبدعين ويركز على سؤالهم ومحاورتهم والاستفادة منهم.
مرضت أمه مرضها الأخير ولزمت بيتها في الداهنة، واحتاجت إلى من يقوم بخدمتها، فكان بعض أبنائها وبناتها يقومون بخدمتها في عطلة نهاية الأسبوع، أما صاحبنا ففرّغ نفسه بقية الأيام لخدمتها، وكثَّف ساعات عمله في الإذاعة أيام عطلة نهاية الأسبوع، وكانت والدته تلازم (الراديو) إذا ودعها مساء الأربعاء إلى أن تسمع صوته وهو يقول: هذه إذاعة المملكة العربية السعودية من الرياض.. فتعلم بذلك أنه قد وصل الرياض بالسلامة لتطمئن وتنام وذلك قبل أن تتوفر خدمة الهاتف والجوال.
اشتد مرضها واحتاجت لملازمة أطول، فقرر عبد الله أن يقيم معها، فاستعان بمن يشفع له عند وكيل إمارة الرياض آنذاك الشيخ عبد الله بن بليهد لإعارته من الإعلام إلى الإمارة، فتم له ذلك، ونُدب للعمل في إمارة شقراء التي تتبع لها بلدة الداهنة لمدة ستة أشهر فقط ليكون بجانب والدته.
بقي عند والدته وباع سيارته ال (BMW)واشترى سيارة (وانيت) وكان يقول لي: الذي يكون في منطقة نائية وليس عنده (وانيت) مقصر في حق أسرته، فتوطَّدت علاقتي به أكثر من ذي قبل، وصرت أزوره ويزورني، وكنت ساكناً في المجمعة ثم انتقلت إلى حرمة وكانت زيارتي له في تلك الفترة من أمتع أيام حياتي، ولا أنسى ذلك اليوم في جوٍّ ربيعي دافئ، دعاني إلى الغداء على مأدبة مع بعض إخوته وأبناء أخواته، فكانت وجبة هنيئة وجلسة ممتعة رائعة.
وكان يزوره في بيته زوج أخته الطبيب الشعبي - عبد الرحمن بن ركيان - وأحياناً يكون عنده أحد الوافدين، وربما ساعدهم في بعض الأمور، وأحياناً يكون عنده أحد الجيران أو الضيوف الآتين من بعيد، وكان مضيافاً لطيفاً مع الجميع.
وذات يوم روى لي قصة العامل الهندي الذي كان يعمل خياطاً للثياب النسائية في الداهنة وأنه ذُهل لما اكتشفت أنه يحفظ القرآن الكريم مجوَّداً ويقرؤه بصوت نديٍّ جميل وأحس بشرف منزلته وعلوِّ مكانته بسبب ذلك رغم عجمته وبذاذة هيئته فقرر أن يحفظ القرآن. لكنه - كما يقول - وجد عملية الحفظ عملية مؤلمة، فاستشار المفتي العام سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، فأشار عليه أن يكون إماماً في أحد المساجد إذا كان يريد الحفظ لتحفزه الإمامة على الحفظ والضبط، لكنه رأى أن تحقيق ذلك صعب عليه وأن الطريق إليه بعيد.
انتهت مدة الندب وأراد التمديد، ولكن الشفاعة لم تكن متيسرة هذه المرة، فكان لا مناص من عرض الطلب مباشرةً على الملك سلمان - أيده الله - عندما كان أميراً للرياض؛ رغم هيبة الموقف الذي تحاشوه في المرة الأولى. فلما عُرض الطلب على الملك سلمان، قال: ولماذا الندب؟ ليذهب إلى الداهنة دون أن يداوم في شقراء حتى تشفى والدته.
فطار فرحاً وسعادةً وإكباراً بهذا الموقف الإنساني العظيم من الملك سلمان - حفظه الله - وأصبح هذا الموقف لديه مثلاً شروداً يعطر به حديث المجالس كلما استدعاه المقام، كيف لا؟ والزيد ممن ينتشي للعمل الإنساني النبيل أياً كان فكيف به وهو في أمر يخصه ويخص والدته التي يبذل لها ساعات عمره وراحته.
اشتد المرض بوالدته وأصبح ملازماً لها؛ يوقظها لصلاة الفجر ويحضّر لها وَضوءها وسجادتها، فإذا أشرقت الشمس أخرجها للشمس وحضّر لها وجبة الإفطار، ثم أدخلها في حجرتها، وهكذا يكون معها في بقية يومها، ينقلها من سجادتها إلى مرقدها ومن مرقدها إلى مجلسها، ويحضّر لها طعامها .
وفي أحد الأيام أخذها الى دورة المياه، وكان على عادته يساعدها على دخول الحمام حتى يطمئن عليها ثم يخرج ويبقى منتظراً نداءها خلف الباب ليساعدها على الخروج. لكنه في إحدى المرات لما فتح الباب ليساعدها على الخروج وجدها مصفرة الوجه متعبة على غير العادة فحملها إلى فراشها وماهي الا لحظات حتى أسلمت الروح لبارئها. يقول هذه هي أول مرة يشاهد فيها الموت وليس أيَّ موت! إنه موت أعز وأغلى ما لديه.
وفي تلك المدة التي كان يمرّض فيها والدته، وفي المدة التي بعيد وفاتها أحس بالحاجة إلى معرفة كثير من الأحكام الفقهية في مسائل الطهارة وصلاة المريض وبقية الأمور الأخرى المتعلقة بأحكام الجنائز وغيرها، وقال لي بالحرف الواحد: إنه إنسان أجوفُ من هذه الناحية، وإن ذلك لا يليق به وبأمثاله من المثقفين، فبدأ بقراءة الفقه في الروض المربع في الفقه الحنبلي فوجد أن لغته غيرُ مناسبةٍ لهذا العصر فأحضر دفتراً وقلماً وبدأ في تلخيصه وكتابته بلغة عصرية؛ لكنه لم يتمَّ هذا المشروع لبعض الصعوبات التي واجهته أثناء الكتابة وعدم قناعته ببعض التفصيلات الفقهية التي رأى أنها لا تدعو الحاجة إليها في حين أنه لم يسعه تجاوزها، وكان بإمكانه أن يستعين بكتب المعاصرين الذين بسّطوا تلك المتون، لكنه كان عصامياً يريد أن يأخذ العلم من المتون دون أن يعوِّل على أحد من المعاصرين، خاصةً أنه من طلاب المعهد العلمي الذين درسوا الفقه الحنبلي في متن (زاد المستقنع) من أوله إلى آخره وكان مقرراً على الطلاب حفظُه في تلك الأيام.
وهكذا كانت نفسه تواقةً لكل شيء ومتطلعةً للكمال والمثالية في كل شيء وهذا ما سبب له بعض العنت في حياته العملية والثقافية، لكن هذا التوق وهذا التطلع ونشدان الكمال يُحسب له، ولو لم يصل إلى كل ما كان يتطلّع إليه.
وكان رحمه الله معجباً بأدب القرآن وبيانه. قال لي ذات مرة : ما أعظم هذا القرآن وما أجمله! يقول تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) قال ذلك لما نقده بعض الكتّاب نقداً مسيئاً واتهمه اتهاماتٍ باطلة.
بعد وفاة والدته رحمها الله، لم يكن هناك شيء يربطه ببلدة الداهنة، تلك البلدة الحالمة الوادعة التي نشأ فيها في صغره وكانت محل بره بأمه في كبره.
عاد إلى الرياض وبدأ يفكر في نفسه بعد وفاة والدته ويتفرغ لحياته الخاصة فاشترى منزلاً في الملز (فيلا) ورممه أحسن ترميم وأثثه أحسن تأثيث، وكان قبل ذلك قد زار أحد أساتذته في سوريا ممن درس على يديهم في كلية اللغة العربية بالرياض وفاءً منه لشيخه وإكباراً له ولفضله. فقال له شيخه : إن أخي قبل ان يتوفى قد جعل ابنتيه أمانةً في عنقي وعهد إلي بأمر تزويجهما، وقد زوجت إحداهما من ابني، وأريد أن أزوجك الأخرى، فتزوجها وجاء بها إلى الرياض وعاش معها بقية حياته، لكنها أسقطت حملها الأول، ثم لم تنجب بعد ذلك. وزرته في منزله الجديد في الملز وأكرمني غاية الإكرام وجلست عنده تلك الليلة إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل لا أملُّ حديثه ولا يملُّ حديثي، لكنني لاحظت عليه بداية المرض وثقل خطواته إذا مشى، ثم ازداد عليه المرض حتى توفاه الله - رحمه الله رحمة واسعة.
وقد نعاه إليَّ الشاعر الشاب عبدالمحسن بن سليمان الحقيل فتلقيت خبره وأنا في مكة المكرمة وكان خبراً محزناً، ورثيته بمرثية نثرية وصفته فيها بأنه جميل كجمال اللغة وآدابها، وكجمال الصوت الذي يشنف الأذان بنبراتها، وكجمال الأصالة والوفاء والكرم، وكجمال بيته الشعبي في الداهنة، الشامخِ شموخَ البرِّ بوالدته، إنه جميلٌ كجمال تلك الأيام التي عرفته فيها منذ ما ينيف على أربعين عاماً، وكجمال اليوم الذي دعاني فيه إلى الغداء، في يوم جميل معطّر الأرجاء.
عرَّفني به الصديق الشاعر حمد العسعوس، ونعاه إليَّ الصديق الشاعر عبد المحسن الحقيل، ولكن كما قال شيخ المعرة:
إن حزناً في ساعة الموت أضعافُ سرورٍ في ساعة الميلادِ
الناس لا يحتفلون بالأديب إلا إذا مات، وأنا احتفلت به حياً قبل أن يموت، لكنني لم أقرأ دواوينه حياً استغناء به عن آثاره، فلما رحل استعضت عن فقده بقراءة دواوينه، وكنت أنوي زيارته في كثير من الأحيان فأذكر ظروفه فأحجم عنها وهي أغلى الأمنيات:
مُنًى إن تكن حقاً تكن أحسن المنى
وإلا فقد عشنا بها زمناً رغْدا
رحم الله عبد الله الزيد ووالديه ووالدينا وجميع المسلمين.
** **
- عبدالمحسن بن إبراهيم اللعبون