جانبي فروقة
في ريف ناءٍ في إحدى دول إفريقيا، يجلس طفل صغير في مدرسة متواضعة بلا كهرباء ولا حواسيب، يتعلم القراءة والكتابة على ألواح خشبية. وعلى الجانب الآخر من العالم، في إحدى ضواحي أوروبا الحديثة، يحضر طفل آخر دروس البرمجة عبر الإنترنت وفي يده حاسوب laptop أو جهاز لوحي Tablet وجهاز موبايل، ويتفاعل مع تقنيات الذكاء الاصطناعي يوميًا في بيئة مدرسية ذكية.
بين هذين الطفلين تتجسد فجوة رقمية عميقة؛ فجوة لم تعد مجرد تفاوت في الموارد، بل تهدد بإعادة إنتاج الفقر والتخلف لسنوات طويلة قادمة. ولهذا التفاوت الرقمي أسباب عدة منها: الاقتصادي فمثلا دولة واحدة مثل الولايات المتحدة الأمريكية (بعدد ولاياتها الخمسين) تملك اليوم ناتجا قوميا يفوق بـ9 أضعاف الناتج القومي للقارة الإفريقية بكاملها (التي يبلغ عدد الدول فيها 54 دولة) حيث أن الناتج القومي الأمريكي يبلغ 27 تريليون دولار مقارنة مع الناتج القومي لدول إفريقيا مجتمعة والبالغ فقط 3.1 تريليون دولار أمريكي.
في ضوء هذه التغيرات، بات من الضروري إعداد أجيال قادرة على فهم هذه التقنيات وتطويعها لخدمة البشرية، لا مجرد استهلاكها. التعليم التقليدي لم يعد كافيًا؛ نحتاج إلى مناهج تدمج الذكاء الاصطناعي في المناهج التعليمية وتزرع في الطلاب مهارات التفكير النقدي، وأخلاقيات التعامل مع التكنولوجيا، وليس فقط المهارات التقنية البحتة.
وقد بدأت الدول بإطلاق مبادرات واستراتيجيات استباقية فقد أصدرت وزارة التعليم الأمريكية دليلا مكونا من 74 صفحة لمساعدة قادة المدارس في دمج تطبيقات الذكاء الاصطناعي في التعليم، كما أطلقت مبادرة AI4K12 لإدخال مفاهيم الذكاء الاصطناعي تدريجيًا في جميع المراحل الدراسية، من الابتدائية حتى الثانوية كذلك، تتبنى كندا خططًا قومية لتدريب المعلمين وإدخال مفاهيم الذكاء الاصطناعي إلى مناهج التعليم الأساسي.
وفي أوروبا، وضعت المفوضية الأوروبية خطة التعليم الرقمي 2021-2027، وركزت على تدريب المعلمين، وتحفيز الابتكار في طرق التدريس، وتعزيز التفكير النقدي الرقمي لدى الطلاب. واستثمرت الصين مبكرًا عبر مشروع AI Goes to School، الذي يستهدف تدريس الذكاء الاصطناعي لملايين الطلاب وأكثر من 6000 مدرسة ابتدائية ومتوسطة في الصين تدرس مواد متعلقة بالذكاء الاصطناعي منذ عام 2020م وكذلك كوريا الجنوبية بدورها جعلت الذكاء الاصطناعي مادة إلزامية للثانويات مع برامج تدريب متقدمة للمعلمين، بينما خصصت سنغافورة جزءًا كبيرًا من استثماراتها في التعليم الرقمي لمبادرة Skills Future لدعم المهارات المستقبلية.
وكما أسلفت وركزت في مقالات سابقة فإن الذكاء الاصطناعي بات حجر الزاوية لعصر أكثر ذكاء وكفاءة وقوة تغيير أيضا في الصناعة والزراعة والصحة وجميع مناحي الحياة؛ ففي عالم الصناعة، أصبح الذكاء الاصطناعي محركًا رئيسيًا للأتمتة الذكية وتحسين الأداء ، ففي مصانع السيارات مثلًا، ساعدت تقنيات الرؤية الحاسوبية في تقليل نسبة المنتجات المعيبة بأكثر من 40 %. أما في قطاع الطاقة، فقد أصبح بالإمكان التنبؤ بالأعطال وتحسين أداء التوربينات، مما خفض التكاليف وزاد من عمر الأصول.
وفي الزراعة، لم يعد المزارعون يعتمدون فقط على الخبرة التقليدية، بل يستخدمون الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات الأقمار الصناعية، وتوقع انتشار الآفات، واختيار أفضل أنواع المحاصيل وفقًا للتربة والمناخ. هذه التقنيات أدت إلى زيادة الغلة بنسبة تصل إلى 25 %، وتقليل استخدام المبيدات الكيميائية بنحو 35 %، في خطوة تدعم الاستدامة البيئية. أما في قطاع الصحة، فقد فتح الذكاء الاصطناعي أبوابًا جديدة للتشخيص المبكر ومراقبة المرضى. من خلال تحليل البيانات السريرية وروبوتات المحادثة الطبية، ساهم الذكاء الاصطناعي في خفض تكاليف الرعاية الصحية بنسبة 30 %، مع تحسين سرعة ودقة الخدمات المقدمة للمرضى فمن خلال الخوارزميات التعلم العميق بات الذكاء الاصطناعي قادرا على تحليل صور الأشعة بدقة تفوق قدرة التشخيص لدى بعض الأطباء وخاصة في تشخيص أورام الرئة والثدي والجلد واكتشاف أمراض القلب والكشف المبكر عن السكري واعتلال الشبكية، وكذلك بوجود مساعد طبي افتراضي على مدار الساعة صارت روبوتات المحادثة المدعومة بالذكاء الاصطناعي توفر استشارات أولية للمرضى بناء على الأعراض التي يصفونها وتسهم هذه الأدوات في تقليل الضغط على العيادات وتوفير استجابة سريعة.
يشهد التعليم ثورة حقيقية بفضل تكنولوجيا التعليم (EdTech)، التي دمجت الذكاء الاصطناعي، الواقع الافتراضي، والتعلم عبر الهواتف المحمولة في العملية التعليمية، مما جعلها أكثر تفاعلية ومرونة من أي وقت مضى. وفي عام 2025، ستواصل هذه التقنيات رسم ملامح جديدة لعملية التعليم. فالتعلم عبر الهواتف ومنصات المحتوى الرقمي سيوفر للطلاب مصادر تعليمية غنية، في أي وقت وأي مكان كما أن بيئات التعلم المدعومة بالذكاء الاصطناعي ستساعد المعلمين على تقديم دروس مخصصة حسب قدرات الطلاب، مما يعزز سرعة الفهم وحفظ المعلومات.
و تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز ستخلق تجارب تعليمية غامرة، تُمكّن الطلاب من استكشاف مفاهيم معقدة بطريقة عملية وممتعة. أما التعلم بالألعاب (Gamification)، فسيجعل التعليم أشبه بلعبة محفزة، مما يزيد من مشاركة الطلاب واندماجهم. والأجهزة القابلة للارتداء ستسهل تتبع التقدم الأكاديمي لحظة بلحظة، بينما ستوفر أدوات التقييم المؤتمتة تحليلات دقيقة لأداء الطلاب ومن خلال التعلم التكيفي سيحصل كل طالب على تجربة مصممة خصيصًا لاحتياجاته.
والحوسبة السحابية ستسهل التعاون وتخزين البيانات بأمان، ووسائل التواصل الاجتماعي ستزيد من فرص النقاش والتعلم الجماعي. بالإضافة إلى ذلك فإن استخدام الدردشات الآلية (Chatbots) سيدعم الطلاب لحظيًا ويوجههم خلال مسيرتهم الدراسية. باختصار، التعليم في 2025 وما بعدها سيكون أذكى، أكثر تخصيصًا، وأكثر متعة مما عرفناه من قبل، ليفتح أمام الطلاب أبواب المستقبل بثقة وإبداع.
إن التعليم الرقمي ركيزة أساسية لإعادة تشكيل العالم، ولم يعد الاستثمار فيه ترفًا أو خيارًا، بل أصبح واجبًا تربويًا وإنسانيًا يفرض نفسه على جميع الدول الطامحة لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة وكذلك بات التعليم الرقمي مع الذكاء الاصطناعي رافعة اقتصادية ومجتمعية تعيد تشكيل العالم وهو ركيزة اقتصادية واجتماعية تعيد رسم معالم سوق العمل والعلاقات المجتمعية. تشير الدراسات إلى أن الذكاء الاصطناعي سيسهم بأكثر من 15 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030م لذلك لا يكفي أن نبني مدارس ذكية بل يجب أن تكون المناهج مبنية لإنتاج عقول ذكية سليمة إنسانية قادرة على قيادة العالم نحو مستقبل أفضل.
** **
- كاتب أمريكي