د.عبدالله بن موسى الطاير
بعض القادة شَغَل الناس، وألهب أكف الجماهير، سجل اسمه في الذاكرة الجمعية، لكن بماذا؟ الجواب المباشر: بالكلام. والكلام لا يستهان به، فهل يُكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم، وإن الحرب مبدؤُهُ كلام. وقد علق بذاكرة هؤلاء الساسة بعض من بقايا السياسة المثالية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حيث ظن البعض أنهم يستطيعون بالمثالية والأمن الجماعي وعصبة الأمم المتحدة منع حرب عالمية ثانية. امتطى صهوة المثالية ساسة مفوهون مثل هتلر الذي أسهب في الكذب حتى اقتنع به وباعه على العوام والخواص، فكانت الحرب العالمية الثانية التي انحسر غبارها عن مدرسة سياسية واقعية بعيدة عن التنظير ومعتمدة على القوة للمحافظة على كيانات الدول الوطنية.
مؤسف أن تعليم الساسة له ثمن باهظ، فأحدهم لا يفيق من نشوة الشعبية إلا بهزيمة أو خسارة فادحة، لا يدفع ثمنها وحده، وإنما تدفع الأوطان والشعوب أثمانا غالية لا تعوض خسارتها.
لماذا يُعلي الناس من شأن الساسة المفوهين على حساب المُنجزين؟ القائد الشعبوي يخرجك في لهيب الصيف وزمهرير الشتاء إلى الشارع، تتضور جوعا، لكنك مع ذلك تهتف طوال اليوم تحت أشعة الشمس الحارقة، وهطل المطر الغزيز، فإذا جن عليك الليل عدت إلى بيتك منهكا، لا تجد كسرة خبز تطفئ بها بكاء الصغار، وتسد بها جوعك، فتنام طاويا، ومن الغد تواصل التصفيق. هذا النوع من القادة يَعْلَق في الذاكرة، بينما القائد الذي يعمل في دأب وصمت، يبقيك في بيتك ومكتبك وشؤون حياتك معززا مكرما تتقلب في النعم، ويحقق لك وأسرتك الأمن والاستقرار والتنمية، غالبا ما تنساه، بل وربما تنهال عليه بالشتائم والنقد والمقارنات العاطفية. هل هي جاذبية الخطاب الشعبوي، أم نفسية الجماهير، أم مزيجٌ من الاثنين؟ العوامل الثلاثة تتفاعل.
يزدهر الخطاب الشعبوي بالبساطة والكثافة العاطفية، إذ يُلخص القضايا المُعقدة في شعاراتٍ جذابة، يَعِدُ بازدهارٍ سريع أو استعادة الفخر الوطني، أو يعد بتلقين الأعداء والمنافسين دروسا قاسية. هذه الخطب، المُفعمة بالصور الحية والتصريحات الجريئة، تُشعل حماس الجماهير. خذ على سبيل المثال خطاب جمال عبد الناصر حول تأميم قناة السويس عام 1956م، الذي أشعل حماس العالم العربي، وصوّره رمزًا للتحدي، ورغم تعثر رؤيته العروبية، إلا أن خطابه فاق إرثه الحقيقي. في نهاية المطاف تعلم الدرس، وانتهج الواقعية خلف الكواليس خوفا من نقمة الجماهير الارتدادية.
تُغذّي سيكولوجية الجماهير هذا التأثير، فالناس ينجذبون إلى الشخصيات الواثقة التي تشعّ باليقين والثقة، لا سيما في الأوقات العصيبة. يُشبع خطابهم توقا فطريًا للأمل، ويترك بصمة عاطفية دائمة. في فنزويلا على سبيل المثال، جسّد هوغو تشافيز نمطا شعبويا مؤثرا، على الرغم من حالة البؤس التي عاشها بلد من أغنى بلدان العالم بالنفط. حشد تشافيز الفقراء بخطابات نارية مُناهضة للنخبة، وهو في رأس قائمة النخبة. ورغم أن سياساته تسببت في انهيار اقتصادي، إلا أن خطابه المسرحي رسّخ مكانته كبطل شعبي لا يقهر. يعكس هذا تحيزًا بشريًا أوسع نطاقًا نحو النشوة العاطفية قصيرة الأجل على حساب الرضا المستدام، مفضلًا القادة المفوهين على أولئك الذين يُحققون أهدافهم بدون ضوضاء.
يغذي الخطاب الشعبوي النفسية الجماهيرية، ويدور بالحشود في حلقة مفرغة لا نهاية لها، ولا هم يريدون الخروج منها. يُكيّف القادة كلماتهم لاستغلال الرغبات، والوعد بالقوة، مما يثير دعمًا قويًا ومباشرا، ويعزز إعجاب الجماهير بالصورة الأسطورية للقائد، حتى لو أخفق في وعوده. تُفسر هذه الديناميكية لماذا تظل شخصيات مثل تشافيز رمزًا، بينما نادرًا ما يخلب قادة براغماتيون مثل لي كوان يو، الذي حوّل سنغافورة إلى قوة اقتصادية، من خلال حوكمة منضبطة، خيال الجماهير. فعلى الرغم من عظمة إنجازات يو، إلا أنها افتقرت إلى التأثير العاطفي المباشر.
تفضيل الخطاب الشعبوي على الإنجازات الحقيقية إنما هو نتيجة تآزر قوي بين المشاعر الثائرة، والنفوس البشرية التي تجذبها الخطب الرنانة لسياسيين هواة. تُظهر شخصيات مثل عبدالناصر وتشافيز كيف يمكن للكلمات أن تصنع الأساطير، بينما يكشف أنور السادات ولي كوان عن ثمن العمل والإنجاز دون ضجيج. يزدهر هذا الخلل في الأزمات الطارئة، لكن التاريخ غالبًا ما يُخلّد في صفحات شبه مهجورة أصحاب الإنجازات الصامتين. التحدي الذي تواجهه المجتمعات في القرن الواحد والعشرين واضح، وهو مدى قدرتهم أو رغبتهم في تقدير القادة ليس لبلاغتهم، بل لأثرهم الدائم، وضمان أن يكون الجوهر، لا الاستعراض، هو ما يُشكل الذاكرة الجماعية. لا يبدو أن المجتمعات تفوز بالرهان، فنحن اليوم أمام ظواهر كلامية مدمرة، لكنها ذات شعبية طاغية.