د. داليا عبدالله العمر
في ظل النعم العظيمة التي أنعم الله بها على بلادنا المباركة، المملكة العربية السعودية، نرى أن كثيرًا من أبنائها قد كونوا ثرواتٍ طائلةً من خلال فرصٍ وفرتها الدولة، ومن فضل الله الذي قال في كتابه العزيز: {وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ} (النحل: 71).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تسعة أعشار الرزق في التجارة»، فالتجارة كانت ولا تزال بابًا واسعًا من أبواب الرزق.
لقد هيأت الدولة، أعزها الله، بيئةً آمنةً، مستقرةً، قائمةً على الشريعة الإسلامية، وسخرت أنظمتها لدعم التجار والمستثمرين، فازدهر القطاع الخاص، وبرزت أسماء وشركات عملاقة بفضل هذا الوطن بعد فضل الله، فحق علينا أن نتساءل: هل ما يقدمه الأغنياء للمجتمع اليوم كافيًا؟ وهل الزكاة وحدها تفي بحق هذا الوطن والمجتمع؟
لا شك أن هيئة الزكاة والضريبة تقوم بجهدٍ مشكورٍ في جمع الزكاة، ولكن ما نطرحه اليوم يتجاوز الإلزام الشرعي إلى فضاء المسؤولية المجتمعية الطوعية المنظمة.
مقترح تشريعي لتعزيز دور الأثرياء والشركات الكبرى: نحو مساهمة اجتماعية ممنهجة وشفافة في سياق تعزيز هذه المسؤولية، يبرز اقتراح أكثر فاعليةً يتمثل في النظر بجديةٍ في إمكانية فرض نسبةٍ محددة من إيرادات الشركات الكبيرة كمساهمة اجتماعية إلزامية وواضحة المعالم وممنهجة التوجيه. هذه الآلية، التي تتجاوز حدود العمل التطوعي، تضمن تدفقًا مستدامًا للموارد نحو المشروعات التنموية والاجتماعية التي تعود بالنفع المباشر على الوطن والمواطنين.
ولضمان الشفافية والمساءلة، يجب أن تكون هذه المساهمات موضحةً بشكل واضح في القوائم المالية للشركات.
وبدلاً من الاعتماد الكلي على التقديرات الفردية أو المبادرات المتفرقة، فإن إلزام الشركات الكبرى بنسبة معينة من إيراداتها يؤسس لثقافة مؤسسية راسخةٍ للمسؤولية الاجتماعية، ويحولها من عمل خيري محتمل إلى واجب وطني منتظم.
آلية إدارة المساهمات الاجتماعية المقترحة:
تأكيدًا على تحقيق الأهداف المرجوة من هذه المساهمات وضمان وصولها إلى مستحقيها بكفاءة ونزاهة، يقترح ألا تدار هذه الأموال بشكلٍ مباشرٍ من قبل الشركات نفسها، وإنما من قبل جهات مستقلة وموثوقة تعينها الدولة. هذه الجهات ستكون مسؤولةً عن توجيه هذه الموارد نحو الأولويات الوطنية والمشروعات الأكثر إلحاحًا.
صور مقترحة للمساهمة الاجتماعية الممنهجة:
تأسيس صناديق وطنيةٍ متخصصة: تدار بشفافية عالية وتعنى بتمويل قطاعات حيوية كالصحة والتعليم والإسكان الاجتماعي، وتغذى بشكلٍ رئيس من هذه النسب الإلزامية.
إطلاق مبادرات تنموية كبرى: تتبناها الشركات الكبرى بشكل مباشر أو بالشراكة مع جهاتٍ حكومية، وتستهدف تحقيق أهداف التنمية المستدامة للمملكة، وذلك بتوجيه وإشراف من الجهات المعينة.
دعم الابتكار وريادة الأعمال: من خلال تخصيص جزءٍ من هذه المساهمات لدعم حاضنات الأعمال والمشروعات الناشئة، مما يعزز التنويع الاقتصادي ويوفر فرص عملٍ جديدةً، وذلك عبر الآليات التي تشرف عليها الدولة.
إضافة إلى ما سبق من صور للمساهمات الفردية الطوعية:
إنشاء مستشفيات خيرية مجهزةً تجهيزًا كاملاً، تسلم لوزارة الصحة وتسمى بأسماء المتبرعين أو شركاتهم، ليكونوا قدوةً لغيرهم.
بناء مساجد ودور تحفيظ القرآن، تسهم في تعزيز الهوية الدينية.
توفير منح تعليمية في الجامعات الأهلية: تخصيص منح دراسية مجانية لأبناء الأسر المحتاجة، مما يتيح لهم فرص التعليم العالي والمساهمة في تنمية الوطن.
إقامة أوقاف عقارية مخصصة لسكن الأرامل والمطلقات واليتامى.
تأسيس صناديق لسداد ديون المديونين وإخراج المسجونين، تدار من جهات حكومية وتسجل أصولها باسم المتبرع أو الشركة المساهمة.
إنشاء مراكز تدريبٍ مهنيٍ: تعنى بتأهيل الشباب السعودي وتزويدهم بالمهارات اللازمة لسوق العمل، مما يسهم في تقليل البطالة وتعزيز التنمية الاقتصادية.
دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة: من خلال توفير قروض ميسرة أو منح مالية، مما يشجع ريادة الأعمال ويوفر فرص عمل جديدةً.
المساهمة في تطوير البنية التحتية: في المناطق الأقل حظًا، مثل بناء مدارس أو مستوصفات أو طرق، بالتنسيق مع الجهات الحكومية المختصة.
دعم البرامج الاجتماعية: التي تعنى برعاية الأيتام وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة والأسر المتعففة.
تأسيس جوائز تقديرية: لتكريم المبدعين والمتميزين في مختلف المجالات، مما يحفز على الإبداع والابتكار.
إن هذا التكامل بين المبادرات الطوعية الفردية والمساهمات المؤسسية الممنهجة والخاضعة لإشراف حكومي محكم، يعزز من فاعلية المسؤولية الاجتماعية ويجعلها ركيزةً أساسيةً في بناء مجتمع متكافل ومزدهر.
ختامًا، ليست المسؤولية الاجتماعية ترفًا، بل ضرورة وطنية وإنسانية، تكمل بها عجلة التنمية، ويشترك فيها الجميع: غني وفقير، مسؤول ومواطن. ومن هنا، نأمل أن يكون هذا الطرح بداية حوار وطني واسع لتفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، بما يحقق مبدأ «التكافل المجتمعي» على أرض الواقع، ويعزز استقرار وطننا ورفاه مجتمعه.