العقيد م. محمد بن فراج الشهري
بعد انهيار المعسكر الشرقي بقيادة السوفييت نهاية التسعينيات من القرن الماضي، ظهرت الولايات المتحدة كقوة عسكرية واقتصادية غايتها الانفراد بالشأن العالمي وإدارته إدارة أحادية تتناسب مع مصالحها الذاتية، معتمدة على الثورة التكنولوجية في مجال الإعلام والاتصال، فأنتجت شبكة الإنترنت التي قربت المسافة بين البشر، حيث استطاعت أن تجعل من العالم قرية كونية فتلاشت الحدود السياسية والجغرافية بين الأمم وتقاربت المسافات حتى ظهر علينا نظام جديد عرف بالعولمة، والتي كنا نظنها ذات خلفية اقتصادية لأن صانعها عراب الرأسمالية، فإذا بها تمد عروقها في عدة جوانب سياسية وثقافية وأصبحت حاضرة بقوة على ساحة الصراع والهيمنة الدولية رافعة شعار الانفتاح والتقارب بين الشعوب والأمم وتخاطب الوجدان الإنساني بشعار الحرية والمساواة والديمقراطية وهذا مخطط له من قبل والبداية كانت بتفكيك الثقافة المحلية وطمس التراث الإنساني وتسطيح الوعي وإشاعة مفاهيم جديدة لضرب المبادئ الإنسانية في المجتمع. فقد استطاعت العولمة النيل من الكثيرين الذين لم يصمدوا أمام الغزو الفكري الجديد، فعمت الرداءة المسلك والبذاءة في الثقافة والدناءة في الرؤى والسذاجة في التفكير، وتم التوصل إلى إنتاج ما يعرف بالقطيع المتجانس، والقطيع ينقاد ويوجه وفق مخططات مدروسة. وأمام ذلك التيار الجارف تحطمت قدرات الإنسان وجعلته فرداً مستهلكاً غير منتج ينتظر ما يجود به الغرب من سلع ومقتنيات، ما شكل لديه قيم التواكل والتقاعس عن العمل والابتكار، وتشتت في الأفكار، ولم يعد إنساناً منتجاً بل مستهلكاً، وفي النهاية يدركه الإحباط فيستسلم ويخضع لتلك القوى.
في السنوات الأخيرة، تلاشت مهمة الإعلام في التوجيه والتثقيف بل إنها غيرت مسارها الثقافي واهتمت بتسويق أخبار المشاهير من الفنانين والرياضيين، وكيف يعيشون وماذا يأكلون وما السيارة التي يركبونها، وفي المقابل تقوم وسائل إعلامية أخرى بتشويه صورة نجم صاعد وتلفيق القصص الوهمية عنه، وهذا يعتبر سبقاً صحفياً كبيراً يتصدر الصفحة الأولى من المجلات والمواقع الاجتماعية، والجمهور الساذج الذي يصدق كل ما يسمع من فرط غبائه منبهراً بتلك المواد الإعلامية التي يتلقاها بكل شغف، هذه البهرجة والابتذال التي يسوقها الإعلام لها هدف واحد هو ترسيخ ثقافة التفاهة بين الناس لإبعادهم عن الواقع ما زاد شبكات التواصل الاجتماعي من شهرة واسعة لدى التافهين ومحدودي التفكير.
وحين نتحدث عن المجتمع الأسري، فقد ساهمت الوسائط الرقمية في تفكيك الروابط الأسرية، بحيث أصبح الأبناء خارج سيطرة العائلة، وتحطمت صورة الأب وقل احترامه بين أفراد الأسرة، لتحتضنهم وسائل التواصل الاجتماعي وتكون لهم بمثابة الراعي والمربي، والنتيجة هي انقلاب أخلاقي وتربوي، حيث بات الوضع أكثر قتامة، وهذا ما كانت العولمة تصبو إليه، بتفكك الأسرة يتفكك المجتمع وينحل وتتحطم بذلك الأخلاق. ولم يعد الدين ركيزة أساسية لتقويم السلوك الإنساني وعنصراً فعالاً للترابط الأسري والمجتمعي بل الغريزة أصبحت تخاطب الفرد وتقوده إلى الرذائل والمعاصي في نهاية الأمر. وباطلاعنا على كتاب عالم اللسانيات الأميركي نعوم تشومسكي (الأسلحة الصامتة للحروب الهادئة) تكونت لدينا قناعة تامة بأن المخطط الشيطاني الذي حيك ضد الشعوب الفقيرة والمعدمة هو من أوصلنا إلى التراجع في سلم التطور الحضاري، فينتابنا شعور بالرهبة والخوف مما يدور حولنا من دسائس ومكر حولت العالم إلى متاهة لا خروج منها إلا إذا كسرنا حدة الانبهار، وتحررنا من عقدة الخوف من الغرب والاعتماد على أنفسنا. يعود السؤال إلى أذهاننا الإنسانية إلى أين؟
قدم مؤلف الكتاب عشر وصايا للتحكم في مصير الشعوب والأمم من طرف قوة واحدة، تلك الاستراتيجيات هي التي شكلت تخلفنا وتراجعنا، ففي مقتطف كتابه، أكد الكاتب على تشتت اهتمامات العامة وجعل اهتماماتهم موجهة نحو مواضيع ليست ذات أهمية حقيقية، حيث يقول «اجعل الشعب منشغلاً دون أن يكون له أي وقت للتفكير وحتى يعود للضيعة مع بقية الحيوانات».
وضمن بعض الاستراتيجيات الماكرة نراه يتحدث عن العمل بطريقة يكون خلالها الشعب غير قادر على استيعاب التكنولوجيات والطرق المستعملة للتحكم به واستعباده. «يجب أن تكون نوعية التعليم المقدم للطبقات السفلى هي النوعية الأفقر، بطريقة تبقى إثرها الهوة المعرفية التي تعزل الطبقات السفلى عن العليا غير مفهومة من قبل الطبقات السفلى. والأخطر من هذا كله ضمن مقتطفات كتابه سالف الذكر إذ يقول «يجب تشجيع الشعب على استحسان الرداءة، حيث إن الشعب يجد متعة في أن يكون جاهلاً وهمجياً. وختم المفكر الأميركي، عراب العولمة استراتيجيته، بفكرة في غاية الحساسية، وهي معرفة الأفراد أكثر مما يعرفون أنفسهم، وهذا دليل واضح للتحكم في مصير الشعوب، فقد بينت التجارب العلمية لعلوم الأحياء وعلم النفس التطبيقي إلى التوصل إلى نظام متقدم للكائن البشري قادر على معرفة الفرد أكثر من معرفته لنفسه، وهذا النظام يتحكم في سلطة الأفراد أكثر من تلك التي يملكونها على أنفسهم.
في الختام، باتت لدينا قناعة راسخة بأن العولمة جاءت لتحطيم وتهديم ما بنته جهود الإنسان، وتحويل حياة البشر إلى كائنات تافهة وخانعة للآلة الرقمية، عبر الوسائط الاجتماعية، وذلك لتبخيس قيمته وتقزيم دوره في البناء والتطوير. لذلك إذا أردنا أن نتصدى لهذا المارد، علينا أن نحمي هويتنا من خلال الثقافة والتعليم، تلك الركائز هي التي تحول مسارنا من التقليد إلى الإبداع في شتى مجالات الحياة، فلا يكفي إصلاح المنظومة التعليمية والمؤسسات القائمة عليها، بل يتعين على صناع القرار إيجاد حلول سريعة لإصلاح القصور في النظام التعليمي وتطويره، لأنه هو الذي سيحمي الأجيال القادمة من مخاطر العولمة، كما يجب مواكبة التطورات العلمية الحاصلة والمشاركة فيها، حتى نتمكن من اكتساب الجوانب المشرقة من المعرفة الرقمية، وكذلك يجب التمسك بالهوية والانتماء، فالشعوب المعتزة بهويتها لا تكسرها رياح العولمة.