عبدالوهاب الفايز
الأسبوع الماضي تعليقاً على تقرير (حالة قطاع الإعلام السعودي وفرصة الاستثمار 2024) الصادر عن الهيئة العامة لتنظيم الإعلام، تحدثنا عن أهمية منظومة الإعلام في المرحلة الراهنة لحماية مقومات الأمن الوطني، ووقفنا عند ما تضمنه من أرقام وإنجازات، فهذه تجعلنا نرفع سقف الطموحات والتطلعات، وقلنا إن هذه تؤكد أن وزارة الإعلام تعود بقوة لتكون المُمكن والعمود الفقري لتطوير الإعلام السعودي، وتستثمر إعادة هيكلة القطاع. فالأحداث في المنطقة تؤكد أهمية مؤسسات الإعلام ذات المصداقية، بالذات الأساسية مثل (الصحافة، والتلفزيون، والإذاعة) فهذه لا يمكن تجاوز أهميتها كإطار مرجعي للإعلام والتواصل، ولقيادة الرأي العام والتأثير عليه.
الحالة السورية تدعم ما نتطلع إليه، فالدور للإعلام تحتاجه المجتمعات العربية لمواجهة تطبيقات الحروب الثقافية وصراع الهويات المفروض على المنطقة. الإعلام له دوره الأساسي الحيوي لحماية المجتمعات وتقوية موقف الحكومات العربية عبر تفكيك الخطاب الموجه الذي يستهدف إضعاف الجبهات الداخلية للدول، وفي سوريا نرى الآن حالة واقعية لخطورة استخدام الإعلام والتواصل الاجتماعي؛ تستخدمها إسرائيل لإضعاف مقومات الأمن والسلام الاجتماعي. وإسرائيل لها أطماع كبرى في سوريا، وتجد الآن اللحظة التاريخية المناسبة للتحرك في ظل السكوت الدولي، والحماية الأمريكية لجريمتها الكبرى في غزة!
لماذا الموقف الإعلامي الواعي القوي مهم؟
الشرق الأوسط يمر الآن بلحظة تاريخية دقيقة، لحظة يعاد فيها رسم خرائط القوة والنفوذ ، في ظل تصاعد المشروع الإسرائيلي ذي الطابع (المسيحاني، وهي حركة فكرتها تقوم على ضرورة المساعدة لتحقيق نبوءة الله بعودة المسيح من خلال تقديم الدعم لإسرائيل)، والمشروع مدعوم بشكل كبير من التيار المحافظ في الولايات المتحدة. في المقابل، تبرز هشاشة الموقفين الروسي والصيني في التأثير الفعلي على السلوك الإسرائيلي، وهذا يترك الدول العربية الرئيسية، وعلى رأسها السعودية ومصر، أمام معادلة شائكة تتطلب إعادة ضبط موازين القوة والردع والتحالفات.
المؤرخ اليهودي إيلان بابيه، في أحدث حواراته الواسعة والعميقة، يرى أن إسرائيل تعيش «لحظة تاريخية» مناسبة لتحقيق ما فشلت فيه النخب الإسرائيلية السابقة: إحياء «مملكة إسرائيل التوراتية» وفرض مشروع «إسرائيل الكبرى». ويعتقد أن هذا التحول لا يعبّر عن تطور سياسي فقط، بل عن تحول عقائدي مسيحاني تتزعمه نخب أمريكية يمينية متدينة، تؤمن بأن ما يجري في الجغرافيا السورية والفلسطينية والأردنية ليس مجرد صراع حدود، بل إتمام لنبوءة توراتية.
الهجوم المتكرر على سوريا، خصوصًا في الجنوب، واحتلال أجزاء من الجولان بذريعة «حماية الدروز»، لم يعد مجرد إجراء أمني، بل جزء من تثبيت الجغرافيا السياسية الجديدة. إسرائيل تعتبر الجولان نقطة استراتيجية تطل منها على سوريا ولبنان، وترى فيه خزانًا مائيًا ومجالاً للاستيطان. وإسرائيل تستفيد من حالة الوضع السوري المعقد الذي تتجاذبه المصالح والمخاوف والمحاذير، والحكومة السورية أمامها مهمات صعبة: تفكيك القوى المسلحة الأجنبية، وتطمين الخائفين، وإبعاد سوريا عن مصالح وطموح القوى غير العربية.
بخصوص مطامع إسرائيل، ما قد يُصعب الموقف العربي في الجبهة السورية التحول المتسارع في الموقف الأميركي، فالآن نرى تبدل الدعم التقليدي الحذر لحكومة ناتنياهو إلى (اصطفاف عقدي) صريح. فالتحالف مع نتنياهو يمثل حالة نوعية جديدة في السياسة الأميركية تجاه إسرائيل. لم يعد دعم واشنطن لإسرائيل مشروطًا أو مرتبطًا بتوازنات متطلبات السلام، بل بات دعمًا غير مشروط لمشروع استيطاني وعقائدي. اعتراف إدارة ترامب بضم الجولان، ونقل السفارة إلى القدس، والسعي لفرض صفقة القرن، جميعها خطوات تعكس انسحابًا أميركيًا من دور «الوسيط»، وتحوّله إلى شريك يعيد بناء خرائط القوة الصهيونية الجديدة.
هذه الحميمية السياسية تدفع إسرائيل لتوسيع نطاق استراتيجيتها الإقليمية، ولا سيما في سوريا ولبنان، دون خشية من كبح أميركي أو اعتراض دولي. فرغم أن روسيا حاضرة في سوريا بقوة عسكرية، إلا أن علاقتها التنسيقية مع إسرائيل في المجال الجوي السوري تعكس حيادًا مريبًا إن لم يكن تواطؤًا عمليًا. ربما موسكو في موقف ضعيف فهي تتحاشى المواجهة مع إسرائيل نتيجة انشغالها بحرب أوكرانيا وأمنها القومي، فأي صدام إقليمي قد يبدّد نفوذها. أما الصين، فرغم قوتها الاقتصادية تبقى أدواتها السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط محدودة الأثر، ومازالت لا تملك القدرة (أو الرغبة) في تشكيل توازن ردع مباشر مع إسرائيل.
في هذا المشهد المعقد يصبح الحمل كبيراً على الدولتين العربيتين الأهم: السعودية ومصر، فهما أمام تحدٍ استراتيجي. السعودية همها الأول الواضح إقامة دولة فلسطينية مستقلة حتى يكتمل مشروع السلام العادل في المنطقة، ويضاف إلى هذا الهم الأكبر هم جديد وهو: ضرورة المحافظة على سوريا وشعبها موحدة، ولها السيادة الكاملة على جميع أراضيها. وفي مقال سابق قلنا إن السعودية لديها المصداقية للتحرك في الشأن السوري لأنها لا تقف مع طرف دون آخر، وتقيم مساحة متوازنة وعادلة مع جميع الأطراف.
كذلك مصر كانت مقصد القيادات الوطنية السورية سعياً إلى الدعم منذ الأحداث الكبرى بعد الحرب العالمية الأولى. المؤكد أنها قلقة من التصعيد الإسرائيلي في الجولان وسوريا، وتدرك أن ذلك قد يؤثر على أمن سيناء واستقرار حدودها مع غزة. ونرى تحركاتها لتشديد الرقابة الأمنية في سيناء وملاحقة التنظيمات العابرة للحدود، وتنسق مع السلطة الفلسطينية وحماس لمنع الانفجار الداخلي في غزة. مع الحفاظ على علاقات مستقرة مع إسرائيل دون تجاوز الخطوط الحمراء الوطنية. ولا تتأخر الحكومة المصرية في تفعيل دورها الدبلوماسي الإقليمي عبر وساطات التهدئة.
ما يجري في المنطقة يتطلب إعلاناً عربياً موحداً يرفض بشكل قاطع مشروع «إسرائيل الكبرى»، ويضع خطوطًا حمراء للصراع. مع إعادة تفعيل مبادرة السلام العربية ضمن تصور يرفض سياسات الضم والتهويد.
كل هذه الجهود تحتاج، كما أشرنا، إلى أهمية استثمار أدوات القوة الناعمة عبر الإعلام، والمنظمات الدولية والمنتديات السياسية الاقتصادية والفكرية، لكشف الطابع العقائدي للمشروع الإسرائيلي الجديد. فتهديد الدولة السورية له عواقبه السلبية على استقرار دول الشرق الأوسط جميعاً. سوريا عادت لتكون ساحة تنافس القوى الكبرى، والوضع الحالي يذكّرنا بالمقولة الشهيرة للصحفي والمؤرخ البريطاني باتريك سيل: «القوة التي تطمح إلى السيطرة على الشرق الأوسط عليها أن تسيطر على سوريا»، وهذ وردت في كتابه الكلاسيكي «الصراع على سوريا: 1945- 1958»، الذي نُشر عام 1965. في هذا الكتاب، حلل سيل الصراعات الإقليمية والدولية التي شهدتها سوريا بعد الحرب العالمية الثانية، مشيرًا إلى أن سوريا كانت ساحة للتنافس بين القوى الكبرى بسبب موقعها الجيوسياسي الحيوي. وأكد أن من يسيطر على سوريا يمتلك مفتاح التأثير في الشرق الأوسط بأكمله. (سمعت مصطفى الفقي في إحدى مقابلاته يذكر أن الرئيس الراحل حسني مبارك يطلب منه إحضار هذا الكتاب عندما يبرز حدث جديد في سوريا). وهذه أيضاً تذكرنا بما طرحه الراحل معروف الدواليبي في مذكراته، فعدد الانقلابات المتتابعة التي حدثت في فترة قصيرة كشفت عن حجم التدخل الدولي في سوريا.
وربما السؤال، أين أوروبا؟ الموقف العربي كان سابقاً يجد الدعم الأوربي في مواقفها مع إسرائيل، ولكن هذا الموقف الأوربي أصبح ضعيفاً ويمنح إسرائيل الغطاء الأخلاقي. إذا كانت واشنطن شريكًا استراتيجيًا لإسرائيل، فإن أوروبا كانت تُعتبر، ولو نظريًا، طرفًا «معتدلاً» يمكن الرهان عليه للضغط على إسرائيل. غياب هذا الصوت الآن يترك الفلسطينيين والعرب في فراغ دبلوماسي واسع. المؤرخ اليهودي إيلان بابيه في تفسيره لضعف الموقف الأوربي يرى أنه نتاج «ضيق الأفق، ويُظهر جبنًا أخلاقيًا من السياسيين» الذين يعرفون ما يجري ولا يتحركون لأنهم «من الواضح جدًا أنهم يتخذون قرارًا واعيًا بعدم التدخل، لأنهم يخشون على حياتهم السياسية».
يبقى السؤال الصعب: تعزيز الشعور الإسرائيلي بـ «اللحظة التاريخية الآمنة»؟
ما يصفه بابيه هو أن إسرائيل لا تتحرك فقط انطلاقًا من رؤية دينية، بل لأنها تشعر بأن هذه الرؤية يمكن تحقيقها دون عقاب، ودون رادع، ودون مساءلة دولية. وهذا هو الخطر الأكبر: تحول المشروع العقائدي إلى سياسة واقعية مدعومة بالعجز الأخلاقي الغربي، وضعف الموقف العربي، مع الأسف!!.