د. محمد بن أحمد غروي
تتألق مدينة ملاكا الماليزية، الواقعة على ضفاف مضيق ملقا الشهير، كواحدة من أغنى المدن ثقافياً وتاريخياً في المنطقة، إذ شكّلت على مدى أكثر من خمسة قرون ملتقى للحضارات والثقافات، ومقصداً للسياح من مختلف أنحاء العالم، ورغم مرورها بمحطات استعمارية متعددة، لا تزال ملاكا تحتفظ بهدوئها المهيب وطابعها الفريد الذي يعبّر عن عمق تراثها المعماري والثقافي. تقع ملاكا في الجنوب الغربي من ماليزيا، حيث تأسست في القرن الخامس عشر عند مصب النهر، في موقع استراتيجي جعل منها الميناء الأبرز لتبادل البضائع بين الهند والصين، وكانت محطة رئيسة على طريق الحرير، حيث وصلت إليها سفن من جزيرة العرب وفارس وسيلان، مما منحها صفة المركز التجاري الدولي في ذلك الحين، وبين أزقتها وواجهاتها البحرية، كان يُسمع صدى أكثر من 84 لغة تُعبّر عن تنوّعها العرقي والثقافي، خصوصاً مع شهرتها كمركز لتصدير التوابل. لعبت ملاكا دوراً محورياً في انتشار الإسلام في جنوب شرق آسيا، ومع قيام سلطنة ملاكا في القرن الخامس عشر، اعتنقت النخبة الحاكمة الإسلام، ما أضفى بعداً روحياً وسياسياً على المدينة، وسهّل التبادل التجاري مع العالم الإسلامي، وبهذا أصبحت اللغة الملايوية لغة التواصل المشترك، وتُعد سلطنة ملاكا أول دولة إسلامية في شبه جزيرة الملايو، الأمر الذي منحها مكانة راسخة في الوجدان الديني والسياسي للأرخبيل.
نظراً لأهميتها الاستراتيجية، جذبت ملاكا أطماع القوى الاستعمارية الغربية، فاحتلتها القوات البرتغالية بقيادة ألفونسو دي ألبوكيرك عام 1511، وكانت هذه بداية الحقبة الاستعمارية التي غيّرت معالم المدينة، حيث شيّد البرتغاليون الكنائس الكاثوليكية داخل قلاعهم، وجعلوا من ملاكا إحدى ثلاث نقاط تحكموا من خلالها في حركة التجارة الآسيوية.
استمرت السيطرة البرتغالية حتى منتصف القرن السابع عشر، حينما نجحت القوات الهولندية في حصار المدينة ثم الاستيلاء عليها عام 1641، بموجب اتفاق مع سلاطين المنطقة يُقضي بعدم التوسّع أو شن الحروب ضد الممالك المجاورة، وخلال الحكم الهولندي، شهدت المدينة نهضة عمرانية بارزة، من أبرز معالمها «المبنى الأحمر» الذي لا يزال قائماً إلى اليوم كرمز للموروث المعماري الهولندي.
وفي عام 1824، انتقلت المدينة إلى الحكم البريطاني وفق اتفاقية رسمية، لتدخل ملاكا مرحلة جديدة تحت حماية التاج البريطاني. وعملت شركة الهند الشرقية البريطانية على تطوير المدينة وتعزيز دورها كمركز تجاري، ما أدى إلى توسّع تأثير البريطانيين في عموم شبه الجزيرة الماليزية. لكن هذا الاستقرار لم يدم طويلاً، إذ اجتاحت القوات اليابانية ملاكا في الخامس عشر من يناير عام 1942 خلال الحرب العالمية الثانية، ففرضت سيطرتها على المضيق، وأخضعت السكان المحليين لمعسكرات العمل الإجباري في سيام وبورما، وأسفر الاحتلال الياباني عن معاناة إنسانية كبيرة، شملت الجوع وسوء التغذية، وفرض العملة اليابانية الخاصة على السكان. ورغم قسوة تلك الحقبة، إلا أن المؤرخين يرون أنها ساهمت في إيقاظ الروح الوطنية لدى الملايو، ومهدت لمطالبتهم بالاستقلال بعد انسحاب اليابانيين عام 1945، مما رسّخ لديهم الإيمان بالقدرة على مقاومة الاحتلال وبلوغ التحرر الوطني.
اليوم، تُعد ملاكا من أصغر ولايات ماليزيا من حيث عدد السكان، إذ يبلغ عدد سكانها نحو مليون نسمة فقط، إلا أنها من أغنى الولايات من الناحية التاريخية والسياحية، وقد أُدرجت المدينة في عام 2008 ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، لما تزخر به من معالم تاريخية محفوظة وهندسة معمارية استعمارية لا تزال شاهدة على تعاقب الحضارات، ومن أبرز هذه المعالم، كنيسة المسيح التي شُيّدت في عام 1753 خلال فترة الحكم الهولندي، وتتميّز بلونها الأحمر وصليبها الأبيض الضخم، وتُعد أقدم كنيسة بروتستانتية في ماليزيا. وفي زيارتي الرسمية الأخيرة للمدينة، التي جاءت بدعوة كريمة من حكومتها، لفت نظري «شارع التناغم» الذي يحتضن ثلاثة أدوار عبادة متجاورة تعكس تعايشاً دينياً نادراً استمر لقرون، ففي هذا الشارع، يعيش السكان المحليون حياتهم اليومية بين المعبد والمسجد والمعبد الهندوسي، في صورة حية للتنوع والوئام.
يحتضن الشارع معبد تشنغ هون تنغ الذي يُعد من أقدم المعابد الصينية في ماليزيا، والذي تأسس في القرن السابع عشر، ويُعتبر مركزاً للمذاهب الثلاثة: الطاوية والكونفوشيوسية والبوذية. ويجاوره مسجد كامبونغ كلينغ الذي بُني عام 1748 بأسلوب معماري سومطري، يتميّز بسقفه الهرمي ومئذنته التي تشبه الباغودا الصينية، أما معبد سري بوياتا فيناياجار مورثي، فهو أقدم المعابد الهندوسية في ماليزيا، تأسس عام 1781، وتزيّن جدرانه أبراج كلاسيكية ومنحوتات تمثل مختلف الآلهة الهندوسية.
ما خرجت به من هذه اللوحة التاريخية والثقافية المتكاملة، هو أن مدينة ملاكا تظل رمزاً للتعدد والتعايش، ومنارةً حقيقية للسلام الثقافي والديني في جنوب شرق آسيا.