د.عبدالعزيز عبدالله الأسمري
بعد نجاحها في ترسيخ حضورها الدبلوماسي خلال محادثات البحر الأسود، واصلت المملكة العربية السعودية بناء دورها الدولي بخطوات مدروسة اتسمت بالثقة والاستمرارية، فلم يكن استضافتها للأطراف المتنازعة مجرد مبادرة دبلوماسية مؤقتة، بل كانت نقطة انطلاق نحو مرحلة أوسع تسعى فيها الرياض إلى توسيع تأثيرها في الملفات الإقليمية والدولية على حد سواء.
وكانت محادثات البحر الأسود قد أحرزت تقدما نسبيا في تنفيذ بعض البنود، حيث التزمت روسيا وأوكرانيا خلال الربع الثالث من 2025 بتجنب استهداف السفن التجارية في المنطقة، بناءً على تفاهمات تم تطويرها لاحقًا في لقاءات غير معلنة بالرياض وفقاً لما نشره معهد ستوكهولم لأبحاث السلام. (SIPRI)
وعلى صعيد الأزمة السودانية، بادرت السعودية بالتحرك لإطلاق محادثات سلام مبدئية بالتنسيق مع الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، في خطوة ليست كالوساطات التقليدية، بل تحمل في طياتها تأكيدًا على أن المملكة ترى أن في استقرار أفريقيا عنصرًا رئيسيًا لتحقيق الأمن العالمي، ومن خلال هذه المبادرة، توجه الرياض رسالة واضحة بأنها لا تنظر إلى النزاعات بمعزل عن مسؤوليتها الأخلاقية كقوة إقليمية صاعدة.
بالتوازي مع ذلك، عملت الرياض في المحافل الدولية على الدفع بقضايا الأمن الغذائي وأمن الممرات البحرية إلى واجهة الاهتمام العالمي، فإيمانها بأن حماية سلاسل الإمداد الحيوية مسؤولية دولية، وهو ما شجعها على لعب دور أكثر فاعلية في صياغة أجندة النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وهو ما يتجاوز حدود الاهتمام السياسي التقليدي، وفقًا لما نشره موقع مجموعة العشرين.
كما واصلت المملكة تحركاتها الدبلوماسية الهادئة في القارة الأوروبية، لتقريب وجهات النظر بين موسكو وكييف، مستثمرة علاقاتها المتوازنة لخلق مساحات حوار رغم اشتداد الصراع.
وقد أشار تقرير صادر عن معهد الدراسات الاستراتيجية الدولية (IISS) إلى أن السعودية باتت تُمثل اليوم مركز ثقل دبلوماسي جديد، تتقاطع فيه المصالح الروسية والأمريكية والأوروبية، وهو ما يعزز قدرتها على التأثير في مخرجات أزمات دولية عديدة.
وكانت الرياض حاضرة أيضًا في توترات جنوب آسيا، حين تصاعدت الأزمة بين الهند وباكستان على خلفية أزمة كشمير، حيث قامت المملكة عبر قنوات اتصال مباشرة مع العاصمتين، بعرض وساطتها لإطفاء فتيل الأزمة، مؤكدة أهمية ضبط النفس والحوار لتجنب انزلاق الأوضاع إلى مواجهة مفتوحة قد تؤثر على استقرار المنطقة بأسرها.
بهذه التحركات المدروسة، تواصل المملكة تنفيذ رؤيتها 2030، ساعية إلى أن تكون شريكًا فاعلًا في بناء نظام دولي أكثر توازنًا وعدالة، ومكرسةً مكانتها كدولة رائدة في تعزيز ثقافة الحوار والدبلوماسية البناءة على الساحة العالمية. بهذا تقدم السعودية نموذجًا فريدًا يتمثل في الجمع بين الطموح الاقتصادي والانفتاح الثقافي والنشاط الدبلوماسي المدروس، في إطار رؤية السعودية 2030 التي تهدف إلى ترسيخ موقع المملكة كدولة قيادية عالمية.