منصور ماجد الذيابي
قد يلاحظ الزائر أو الضيف في المجتمع العربي عند حضوره لكثير من المناسبات الاجتماعية ارتباك المضيف أو صاحب الحفل خلال مروره من أمام الحاضرين ذهاباً وإياباً بحثاً عن مقعد ملائم لمنزلة الضيف في المكان المسمى محلياً بـ»صدر المجلس»، أو حتى في الأماكن القريبة من صدر المجلس الأمر الذي يجعل البعض من أصحاب المناسبات يتعرضون لحرج شديد أثناء الاستقبال وإطلاق عبارات الترحيب بالضيوف القادمين ومرافقتهم حتى وصولهم إلى داخل القاعة المكتظة بالزائرين من المدعوين لحضور المناسبة الاجتماعية، حيث يتجاوز عدد المدعوين في أحيان كثيرة القدرة الاستيعابية لمقر الاحتفال بالمناسبة الاجتماعية.
وهنا، وبعد أن تمتلئ القاعة بالحضور، قد يلاحظ البعض ارتباك المضيف - خشية التعرض لانتقاد لاذع من ضيوفه - كما قد يلاحظ البعض حالة القلق والحرج الشديد للمضيف وهو يجوب القاعة من أمام الجالسين على مقاعدهم بحثاً عن مكان شاغر، ولربما بلغ به الحرج إلى حد الطلب من بعض الضيوف الجالسين إخلاء مقاعدهم لإحلال ضيوف آخرين يعتقد صاحب الحفل بأنهم أولى بالتكريم وأجدر بالجلوس في المنصة أو الواجهة أو صدر المجلس باعتبارهم أكثر مالاً وأعز جاهاً أو باعتبارهم أعلى منزلة وأرفع مكانة.
وما بين البحث عن مقعد شاغر في صدر المجلس والطلب من آخرين إخلاء مقاعدهم لصالح قادمين جدد أكثر مالاً وأعلى مكانة اجتماعية يواجه كل من المضيف والحاضرين مسبقاً نوعاً من الحرج الشديد والامتعاض المرير. فالمضيف يريد كسب احترام ورضا من يرى أنهم ذوو شأن كبير على حساب بعض الحضور الذين سبقوهم في الحضور والجلوس، بينما نجد أن الضيوف الحاضرين مسبقاً قد لا يرغب البعض منهم إخلاء مقعده والقبول بهذه المفاضلة المكانية طالما لديهم الرغبة في استكمال الحديث ومتابعة فقرات الاجتماع إلى جانب المجاورين لهم في مقر المناسبة الاجتماعية.
أحاول الآن تسليط الضوء على جذور هذه الإشكالية الثقافية في المفاضلة على المقاعد أو الأماكن عند استقبال ضيوف آخرين لا مكان لهم في قاعة أو مجلس مزدحم بالحاضرين مسبقاً، إذ تعود المشكلة إلى طبيعة الموروث الثقافي في التعامل مع هذه الحالة الاجتماعية، ذلك أن أولئك الذين تشربوا بثقافة السلف يعتقدون أنه من المشين أو المعيب التخلي عن سنة الأولين في تخصيص صدر المجلس لكبار الضيوف ووجهاء الوسط الاجتماعي حتى لو تطلب الأمر إبعاد البعض من الحضور وإحلال ما يسمى الوجهاء مكانهم، دون مراعاة لأسبقية الحضور والجلوس في صدر المجلس ودون العمل بأي معايير اجتماعية مقبولة لدى طرفي الإشكالية الثقافية وهما صاحب المناسبة والمطلوب منه أو منهم مغادرة صدر المجلس إلى أي مكان آخر.
هذه الحالات الاجتماعية تحدث اليوم بشكل متكرر في المناسبات، وكنت شخصياً تعرضت أكثر من مرة لمثل هذه المواقف والحالات الثقافية بعد استهدافي في عملية المفاضلة غير أنني رفضت آنذاك، وتجاهلت طلب المضيف مغادرة مكاني في صدر المجلس أو بالقرب منه وتمسكت بمقعدي حتى نهاية المناسبة الاجتماعية، لأنه من غير المعقول ومن غير المنطقي أن نطلب من الحاضرين مبكراً إخلاء مقاعدهم لصالح ضيوف آخرين جاءوا متأخرين في الوقت الذي لا تتوافر فيه مقاعد شاغرة في «صدر المجلس» أو في محيط صدر المجلس.
هذه المشكلة الثقافية تتطلب البحث والتقصي ودراسة جذور الحالة الاجتماعية في الموروث الثقافي، ومحاولة ترميم الحالة الثقافية وتقديم توصيات واقتراحات للتوصل إلى حل توافقي يرضي جميع الأطراف المتورطة في مثل هذه المواقف الثقافية الاجتماعية.
ولذلك أرى أنه من الأفضل التوقف عن طلب إخلاء المقاعد والنظر مثلاً في إمكانية إخلاء قاعة النساء ودمجها بقاعة الرجال لاستيعاب أعداد إضافية من الضيوف المدعوين، أو رفع لافتات وشعارات تتضمن حجز عدد من مقاعد صدر المجلس لكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة ووجهاء المجتمع، وبالتالي يمكن للمضيف تجاوز مطبات الحرج في هذا المشهد المرتبط بالموروث الثقافي، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المتغيرات التي حدثت مع مرور الزمن وكذلك اختلاف توجهات البشر عما كانت عليه في العصور الماضية من حيث الرفض والقبول بطبيعة المفاضلة المكانية في المناسبات الاجتماعية.
نعلم جميعاً وفي هذا الزمن الذي نعيش فيه اليوم أن مصطلح المفاضلة يعد من المصطلحات الحديثة في معاجم اللغة العربية، وقد تم استخدام هذا المصطلح لأجل اختيار الأفضل تأهيلاً من المتقدمين على الوظائف المعلن عنها من خلال إجراء مسابقات وظيفية ومقابلات شخصية لتحديد واختيار الشخص المناسب لمتطلبات ومهام الوظيفة المعلن عنها في القطاع العام أو القطاع الخاص، ولكن أن تكون المفاضلة في مناسبات اجتماعية تتعلق بتمييز وتقديم وتفضيل فئة على أخرى, فهذا ما لا يتفق مع التعليمات الإسلامية ولا حتى يتفق مع بنود القانون الدولي الإنساني الخاصة بمعاملة جميع البشر سواسية، بغض النظر عن اللون والجنس والثراء المالي والانتماء القومي كما نصّت عليه المادة 26 من قانون حقوق الإنسان وكذلك المادة 16 من اتفاقية جنيف الثالثة.