عبدالعزيز محمد الجعدي
في العقود القليلة الماضية، شهد العالم تحوّلاً جذريًا في بنية العلاقات الإنسانية، فرضته الثورة الرقمية المتسارعة، وانتشار الأجهزة الذكية، وتطور منصات التواصل الاجتماعي. غيَّرت هذه الأدوات الرقمية طبيعة التفاعل بين البشر، لتطرح سؤالًا وجوديًا حديثًا: هل نحن، فعلًا، أكثر قربًا أم أننا غرقنا في وهم التواصل؟ وهل أدّت وفرة وسائل الاتصال إلى تعزيز وتأصيل الروابط الاجتماعية، أم أنها ساهمت في إفقارها؟
فمنذ نشأة الإنسان، ظلّ التواصل عنصرًا مركزيًا في بناء المجتمع وتشكيل الهويّة. كان اللقاء المباشر، والنظرة، والصوت، والملمس، أدوات لا يمكن اختزالها. لكن، مع التطوّر التكنولوجي، انتقل الإنسان من الفضاء الواقعي إلى ما بات يُعرف بـ»الفضاء الرقمي»، حيث تحوّل الجسد إلى صورة، والصوت إلى رسالة صوتية، والعاطفة إلى «رمز تعبيري».
وبينما تُروج التكنولوجيا لسهولة الوصول والربط، إلا أن العديد من الدراسات الاجتماعية والنفسية أظهرت مفارقة واضحة: في الوقت الذي ازدادت فيه منصات التواصل، تراجعت جودة هذا التواصل، وتفاقمت مشاعر العزلة والفراغ الاجتماعي.
والتقنية، بطبيعتها، ليست خيرًا أو شرًا، بل أداة تتحدد قيمتها حسب كيفية استخدامها. في بداياتها، بشّرت بثورة إنسانية تُمكّن الفرد من التعبير والانفتاح وتوسيع العلاقات، لكنها سرعان ما أخذت منحىً آخر: تحوّلت من وسيلة للتواصل إلى وسيط ثقيل بين الإنسان والإنسان.
فالصداقة اليوم قد تُقاس بعدد «المتابعين»، والمكانة الاجتماعية تُختزل أحيانًا في عدد «الإعجابات»، والمشاعر تُختصر في رموز جامدة. باتت العلاقات تُدار بمنطق السوق: سريعة، متقلبة، وتفتقر إلى العمق. بل إن مفهوم «الخصوصية» قد تقلّص بشكل مقلق، حيث باتت التفاصيل الشخصية تُعرض طوعًا، ويتم استهلاكها بنهم دون وعي.
ومن المفارقات المؤلمة التي يشهدها هذا العصر، أن الإنسان - رغم انغماسه في دوامة التواصل اللحظي - يختبر مشاعر العزلة بشكل غير مسبوق. فبينما كانت العلاقات في السابق تُبنى على التراكم والاحتكاك اليومي، أصبحت اليوم تقوم على التفاعل السطحي والسريع.
لقد تغيّر حتى مفهوم «اللقاء». لم يعد يشترط حضورًا جسديًا، بل يكفي أن نكون «متصلين»، رغم أن الاتصال الرقمي قد يفتقد الحضور الروحي. نحن نكتب أكثر، نعم، لكننا نشعر أقل. نرد بسرعة، لكننا نُصغي ببطء - إن أصغينا أصلاً.
هذا التحوّل الرقمي لم يمرّ دون تبعات. فالعلاقات الافتراضية غير المتوازنة قد تؤدي إلى الإدمان الرقمي، وتضعف من مهارات التواصل الواقعي، كما قد تعزّز المقارنات السطحية التي تُؤثر في تقدير الذات، خاصة لدى الفئات الشابة.
ومن جهة أخرى، تأثرت الأسرة كمؤسسة اجتماعية مركزية. فغالبًا ما نرى أن أفراد العائلة يجتمعون جسديًا، لكنهم يتشتتون رقميًا، يشارك كل منهم حياته في مكان آخر، مع أشخاص لا ينتمون إلى الدائرة الحقيقية للعاطفة والانتماء.
إن الواقع يفرض علينا ألا نكون خصومًا للتقنية، بل شركاء في تهذيب استخدامها. ما نحتاجه اليوم ليس الإعراض عن الأدوات الرقمية، بل الوعي بكيفية استثمارها لصالح الإنسان، لا على حسابه. وعي يُعيد التوازن بين «الاتصال» و»الوصال»، بين «التواصل الرقمي» و»اللقاء الإنساني.» ربما يجب أن نُعيد تعريف معنى «التواصل الحقيقي»: أن نستثمر في علاقات تتيح لنا أن نُخطئ، أن نُصغي، أن نشارك الألم لا الابتسامة فقط، وأن نحيا التجربة لا مجرد توثيقها.
خاتمة:
لقد منحتنا التكنولوجيا قوة خارقة للتواصل، لكنها سلبتنا - إن لم ننتبه - نعمة القرب الحقيقي. وبينما نتواصل أكثر من أي وقت مضى، علينا أن نسأل أنفسنا بصدق: هل نحن، فعلًا، أقرب؟ أم أننا نكتفي بالوهم الرقمي، ونُهمل الجوهر الإنساني؟
التوازن، مرة أخرى، هو مفتاح النجاة. فلنُبقِ التقنية وسيلة... لا بديلًا.