طارق مصطفى القزق
يعيش الإنسان منذ ولادته في مجموعة من النظم تشكل هويته وطريقة تفكيره وسلوكه. هذه النظم لا دخل للفرد في اختيارها فهي التي تحوله من فرد إلى شخص «عضواً» اجتماعيا، وبناء عليه فهي التي تفرض عليه القيام بالدور الذي سيؤديه؛ وليس ذلك فحسب بل أيضا تجعلنا نتوقع السلوك الذي سيقوم به الشخص المقابل لنا وهو ما نطلق عليه في علم الاجتماع «توقع الدور»، ويمكننا إعطاء أمثلة على هذه النظم: الاقتصادية والثقافية والتعليمية وغيرها.. هذه النظم نشأت من أجل استمرار المجتمع وتحقيق أهدافه التي - بالأساس - هي أهدافنا نحن فإن كل قرار نتخذه لا يؤثر فينا نحن وحسب ولكن يؤثر في المجتمع، بل امتد ليكون مؤثرا في العالم بأثره؛ لأننا نعيش عصر ومجتمع المعلومات القائم على ثورة الاتصالات.
ومن هذا المنظور علينا أن نضع تساؤلا: ماذا لو كانت هذه النظم والأدوار لتخدم ما نرغب في تحقيقه؟!، وبطريقة أخرى، لماذا لا نحصل على التوقعات اللازمة من الآخرين؟!
للإجابة عن هذه الأسئلة علينا أن نقيس مقدار الفجوة بين النظم الاجتماعية وأهدافها وقيمها، و بين ما هو مطلوب اجتماعيا وبين الوسائل المتاحة التي توفرها لنا هذه النظم من أجل تحقيق هذه الأهداف، ومن هنا ينشأ الانحراف أو الأنومية، التي تنتهك فيه القوانين والقيم الاجتماعية - أنظر أولاد الذوات: الفجوة والجريمة البيضاء - ومع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وسرعة المواصلات، لم تصبح هذه النظم الاجتماعية قادرة على تحقيق أهدافنا ولا توجد وسائل شرعية متاحة لتحقيق ما نصبو إليه، وهذا الضعف ليس فقط في عالمنا العربي ولكن ظاهرة عالمية.
النجاح السريع والسهل وضعف الجزاءات الاجتماعية، وظهور الحركات الثقافية التي تدعو إلى تغيير القيم الثقافية العالمية الثابتة. هذا كله أدى إلي تعرضنا إلى ثقافات متنوعة بين ما يعتبر أن سبب فشلنا، وبين ما يحمل النظم الدولية المسؤولية؟! وهذه الإشكالية تعكس طبيعة النظام الدولي، ولربما نتحدث عنها في مقالات أخرى..
شيوع ثقافة التوسكا Tocka:
التوسكا في اللغة الروسية تعني الحزن الشديد واليأس أو البؤس، وثقافة التوسكا هي ناتجة عن عاملين الأول: الفقر والثاني: الرفاهية الزائفة.
يذكر علماء الاجتماع أن النظرة السوداوية الناتجة عن الصدمات الاقتصادية تؤدي إلى كساد أخلاقي في المجتمعات، هذه النظرة التي يمكن أن نراه في سلوكيات الناس وآرائهم وأفكارهم السوداوية عن الحياة والمستقبل. هذه الصدمات تواجه أحياناً بالهروب أو الانسحاب عن طريق تناول المسكرات والمخدرات التي تغيب العقل عن واقعه، ثم ولكن يجد الإنسان نفسه بعد سهرة مع قمر هادئ من المتعة الزائفة؛ تحت حرارة شمس واقعه الاجتماعي، وبعيدا عن الحياة الطبيعية ننتقل إلي العالم الافتراضي المليء بـتطبيقات الإنترنت مثل: التيك توك واليوتيوب.. وغيرهم، وعلى الرغم من أهميتهم إلا أن استعمالهم بلا هدف كتقليب الصفحات تلو الأخرى، هرباً من الأهداف أو المسؤوليات الواقعة علينا، هذا يعد نوعاً من المخدرات الإليكترونية بلا دخان.
وعودة مرة أخرى إلى الكساد الاقتصادي وشيوع النظرة السوداوية التي ذكرها أيضا دوركايم في كتاباته عن كونها من مسببات الانتحار، وأنه أصبح في الوقت الحاضر مع تنوع الاختيار الثقافي للإنسان باعتباره نوعاً وليس جنسا كما تذكر النظريات الجندرية، فإن كان الانتحار يصاب به الأغنياء فإن ممارسة البغاء أحيانا كوسيلة لتحقيق الأهداف وتحقيقها نوع من الاختيار الناتج عن ثقافة البؤس، وقد تظهر ثقافة البؤس ليس فقط في أوقات الأزمات الاقتصادية أو الفقر، كما أنها تظهر في أوقات الحروب وما ينتج عنها من نظرات تشاؤمية في الحياة، وعادة ما تلجأ الناس إما المقاومة أو انتظار الموت «الاستسلام» أو الهرب دون عودة.
والتوسكا Tocka وتعني أيضاً حالة اليأس الشديد الناتجة عن الدمار والفقر، في الحروب لا تهدم المباني فحسب بل والإنسان أيضا ولكن عندما يهزم الإنسان فإنه يغترب؛ والاغتراب هو إما الابتعاد بشكل كامل عن الحقيقة التي عليها وقائع الأمور أو السير مع القطيع في تفسير حقائق الحياة وبلسان حال «لن ينجح أحد في هذا العالم»، وأصبح مفهوم النجاح الحقيقي هو أن تقوم بتحويل نفسك إلى سلعة عن طريق تصوير نفسك بمقاطع الفيديو على اليوتيوب أو التيك توك.
الثراء والرفاهية في الخيال الاجتماعي والتراث الشعبي تتمثل في (الرجل الذي يمتلك الذهب وحوله الجواري، يرتدي الحرير، يسافر إلى بلاد الهند والسند، ويمتلك الأراضي، مما يحصل على النفوذ) ومع تطور مفهوم الرفاهية أصبح الهدف منها تسهيل حياة الناس الصحية والأمنية وتسهيل الأعمال ولاسيما مع ربطها بحقوق المواطنة، ولكن الرفاهية التي صنعتها التقنية غيرت من هذا الخيال وبين الواقع المأمول جعلته في هيئة إنسان يجلس أمام التلفاز أو جهاز الحاسوب بدين، لا يتحرك، وبضغطة ذر يأتي الطعام له ويأتي الشراب وكذلك اللباس وحتى العمل أصبح في المنزل، أصبحت الأموال غير مرئية غير حقيقية وحتى العمل متغير غير ثابت لتغيير الحياة ومتطلباتها، وهي نوعا آخر من (التوسكا) التي صنعتها لنا التكنولوجيا.
وفي نظرة تأملية أخرى في التوسكا، فإنها تعني الخضوع للحزن والأفكار السلبية مع النظرة التشاؤمية، والاستسلام للذات السلبية الحزينة التي تتغذى على مشاعر وطاقة الحزن؛ وإن أفضل تعبير عن حالة التوسكا، هي ما عبر عنه دوستويفسكي عن مفهوم الإلحاد والخضوع في رواية المراهق بقوله «إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بغير سجود، فبغير السجود لا يحتمل الإنسان نفسه..، فإذا جحد الله سجد لمعبود من خشب أو من ذهب، أو سجد لمعبود صنعه له الخيال، أنهم جميعا وثنيون لا ملحدون».
إن عبادة الذات والمال، والخضوع للملذات، والشهوات، عبادة الشهرة، جميعها نوعا من التوسكا والاغتراب والبؤس، عندما لا يجد الإنسان الوسائل التي تمكنه من تحقيق أهداف أو رغبات تمس روحه، تشعره بحالة من النشوة والشوق الشديد، فإنه يدخل في حالة من الصراع الذاتي والصدمة، ولكن نحن الآن في عصر عبادة الذات، الفردية، يعيش الإنسان لنفسه ومن أجل ذاته، لربما الوسائل الاتصال الحديثة جعلتنا أكثر تمركزاً حول ذاتنا، فقديما كانت وسائل الترفيه أو الثقافة الشعبية الاحتفالية جميعها تستخدم بالتشارك والتفاعل، ولكن الآن أصبح التفاعل فرديا ..
وللحديث بقية.