في عالم تتسارع فيه التحولات الاقتصادية والاجتماعية، تبرز المملكة العربية السعودية كنموذج فريد للتحول الطموح والواقعي في آنٍ واحد عبر رؤية 2030، حيث لم تعد المملكة رهينة تقلبات الأسواق النفطية، بل أصبحت مختبرًا حيًا لصناعة اقتصاد معرفي، متنوع ومستدام.. إن هذه المقالة تقدم قراءة تحليلية عميقة في تجربة التحول السعودية، وتكشف كيف تحولت إلى قصة نجاح ملهمة لدول العالم الباحثة عن مستقبل مختلف.
لا شك أن رؤية المملكة العربية السعودية 2030 لا تمثل مجرد خطة تحول اقتصادي، بل مشروع وطني لإعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والاقتصاد والمستقبل. فعلى مدار تسع سنوات من العمل المتواصل، تحولت الرؤية إلى واقع نابض بالأرقام والإنجازات النوعية، تمامًا كما فعلت كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة، ولكن بملامح سعودية أصيلة تجمع بين الجذور والطموح الذي لا يعرف سقفًا.
وفي الوقت الذي شهد فيه العالم تقلبات اقتصادية حادة، استطاعت المملكة أن تحقق إنجازات جوهرية في وقت قياسي. لقد ارتفعت مساهمة القطاع غير النفطي من 47% في 2016 إلى 51% بنهاية 2024 مسجلة أعلى مستوى تاريخي لها، وقفزت الصادرات غير النفطية إلى أكثر من 300 مليار ريال. كما وصلت معدلات البطالة بين السعوديين إلى 7%، وهو إنجاز استباقي مقارنة بالمستهدف الأصلي لعام 2030، في الوقت الذي بلغ فيه معدل التضخم مستويات مستقرة عند 1,7% بنهاية 2024، بما يضمن توازن النمو الاقتصادي مع المحافظة على القوة الشرائية للمواطنين. وعلى صعيد الابتكار، تقدمت السعودية إلى المرتبة 47 عالميًا في مؤشر الابتكار العالمي لعام 2024، وتم تسجيل أكثر من 2,500 براءة اختراع خلال عام واحد، بينما بلغ الإنفاق على البحث والتطوير 1% من الناتج المحلي، مع خطط طموحة للوصول إلى 2,5% بحلول 2040.
وفي حين أن الرؤية السعودية لم تكتفِ بتنويع مصادر الدخل، بل تبنت بشكل استباقي التحول إلى اقتصاد مستدام، عبر مشاريع مثل نيوم، التي تمثل رؤية مستقبلية تدمج بين الذكاء الاصطناعي والاستدامة البيئية، و مشروع سير (Ceer): كأول علامة تجارية سعودية للسيارات الكهربائية، ومشروع مدينة «ذا لاين» التي تمتد على طول 170 كم وهي خالية من الكربون. وفي القطاع السياحي، مشروع البحر الأحمر، الذى يعتبر وجهة سياحية فاخرة مستدامة عالميًا. إن هذا النهج في التنمية يعكس فهمًا عميقًا لديناميات الثورة الصناعية الرابعة، ويضع المملكة في مصاف الدول الرائدة عالميًا في صناعة مستقبل الاقتصاد.
لا شك أن المملكة تمضي قُدمًا في مسار طموح ضمن رؤيتها التنموية، حيث نجحت في تحويل التحديات إلى فرص وإنجازات ملموسة. فقد شهد عام 2024 تحقيق ثماني مستهدفات رئيسية قبل موعدها، واكتمال 85% من المبادرات، إضافة إلى تحقيق 93% من مؤشرات الأداء، وهو ما يُشكل إنجازًا نوعيًا يمهد لمرحلة ثالثة من الرؤية أكثر طموحًا وتحديًا.
وإذا قارنا التجربة السعودية بنهضة كوريا الجنوبية في الستينات، نجد أن كلا البلدين اعتمدا على استثمار مكثف في التعليم والصناعة ورفع كفاءة الحوكمة المؤسسية. واليوم، تخلق المملكة عبر برامج مثل «تنمية القدرات البشرية» و»صندوق الاستثمارات العامة» بيئة خصبة للابتكار وريادة الأعمال، حيث قفزت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 77,6 مليار ريال في عام 2024، كما ارتفع عدد المنشئات صغيرة ومتوسطة إلى أكثر من 1,27 مليون منشأة.
وبمقارنة المسار السعودي بتجربة ماليزيا في التسعينات، التي اعتمدت على تنويع الاقتصاد وجذب الاستثمارات، نجد أن السعودية حالياَ تسير بخطى أسرع وأشمل، عبر إطلاق مشروعات مدن مستقبلية مثل «ذا لاين»، التي تعيد ابتكار مفهوم العيش الحضري المستدام. وأما سنغافورة، التي أصبحت مركزًا عالميًا عبر التعليم والكفاءة الحكومية، فإن المملكة تنافسها اليوم عبر رقمنة أكثر من 94% من الخدمات الحكومية، وتقدم الجامعات السعودية في التصنيفات العالمية المرموقة، مما يدفع عجلة الاقتصاد نحو آفاق أرحب.
إن الأمر اللافت في خطة التنمية السعودية بأنها لم تقتصر على الجوانب الاقتصادية، بل اشتملت أيضاً على جودة الحياة، حيث ارتفعت نسبة ممارسة الرياضة إلى 25%، وبلغ متوسط العمر الصحي المتوقع 78 سنة. كما أسهم قطاع الثقافة والترفيه بنحو 3,6% من الناتج المحلي غير النفطي، ما يعكس بناء مجتمع نابض بالحيوية.
وبيئيًا، أطلقت المملكة مبادرة «السعودية الخضراء»، مع التزامها بزراعة أكثر من 10 مليارات شجرة، وزيادة مساهمة الطاقة المتجددة إلى 5,5% من مزيج الطاقة الوطني، مع هدف للوصول إلى 50% بحلول 2030. كما قفز ترتيب المملكة في مؤشر الأمم المتحدة للحكومة الإلكترونية لتصبح السابعة عالميا متعدية مستهدف 2030، وتم تسجيل 8 مواقع سعودية في قائمة التراث العالمي لليونسكو قبل الموعد المستهدف.
لا شك أن الفارق النوعي في تجربة المملكة هو أنها لم تكتفِ بنقل التكنولوجيا، بل تبنت منظومة وطنية متكاملة لخلق المعرفة، تعتمد على البحث العلمي وريادة الأعمال والصناعة المتقدمة، مما يجعل الاقتصاد السعودي أكثر قدرة على توليد الثروة من العقول لا من الموارد فحسب.
ختاما يمكن الجزم بأن تجربة المملكة تؤكد أن التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى، المدعوم بقيادة سياسية حازمة وإرادة مجتمعية متقدة، أنه قادر على تحويل التحديات إلى فرص نمو. ولذا فرؤية 2030 اليوم لا تمثل فقط مستقبل المملكة، بل أصبحت نموذجًا عالميًا لإعادة تعريف التنمية الحديثة، التي هي تنمية يقودها الإنسان، تغذيها المعرفة، وتستهدف استدامة تمتد أثارها للأجيال القادمة.
** **
د. هدى منصور - أستاذ الاقتصاد متخصص بتحليل البيانات والابتكار الاقتصادي