د. محمد بن إبراهيم الملحم
وعدتكم اليوم أن أتحدث عن رسائل هذا المسلسل الأعشى والتي أبرزها كانت رسالة مضللة عن المجتمع السعودي في السبعينيات حيث صورته مجتمع حب وغرام ورسائل ومواعدات خلف الأهل، هل لم يحدث ذلك؟! بالطبع حدث، ولكن بنسبة لا تمثل المجتمع كما صورها المسلسل، وهو أيضا يحدث الآن وحدث قبل السبعينيات أيضا.. ولا يستغرب أبدا أن تحدث هذه السلوكيات الخاطئة وغيرها، فهي طبيعة البشر بالجنوح أحيانا عن الصواب واقتراف شيء من الخطأ كبر أو صغر كثر أو قل، ولكن مشكلة المسلسل الأعشى أن فشل في تصوير هذا المظهر الطبيعي ليتقبله المشاهد بكل تفهم، وإنما ذهب يبالغ في هذه الصورة حيث كانت كل فتاة ظهرت في المسلسل صاحبة مغامرة حب وغرام، بل حتى المتزوجة كانت تعشق خلف زوجها! ولم يسلم من ذلك إلا العجائز والأمهات الكبار! كما أن كل شاب ظهر في المسلسل كان ولابد له أن يعشق إحداهن ويواعدها، لا بل حتى الطبيب المصري لم يسلم من ذلك فراح يختبئ في الطرقات ليتحدث مع حبيبته عزيزة! (وفي ذلك إساءة لمجتمع المغتربين المصريين آنذاك والذين كانوا بعيدين كل البعد عن مثل ذلك). هل كان هذا مجتمعنا يا ناس! قد توجد فيه فتاة بين ألف فتاة تقوم بمغامرات غير محسوبة وتواعد أحد الشباب لتتحدث معه أو ربما ترسل رسائل لكن ليست كل البنات كذلك ولا أكثرهن ولا حتى نصفهن! وليس كل الشباب أيضا، فالحياء الذي رزقه الله بنات هذا البلد المحترمات (واللاتي كثير منهن اليوم أمهات بل جدات) كان هو السائد وهو الخلق الذي كفل لهن حياة كريمة كلها وقار واحترام وحشمة وأدب، لم يخلعنه إلا في بيت الزوجية المقدس، كما أن شباب السعودية آنذاك (والذين هم اليوم أيضا آباء وأجداد) كانوا على قدر عال من الشهامة والمروءة، وحتى عندما يراود بعضهم (بل كثير منهم) نازع الهوى والشوق الفطري للجنس الآخر، فإنه لا يتعدى أكثر من وسوسات وأمان يعيشها الشاب ويضغط على نفسه للمحافظة على قيمته الشخصية وسمعة أهله وقيم مجتمعه ويحفظ ظهوره بمظهر الاحترام الذي يليق به من خلال عدم خيانة أمانة الجوار والتغرير ببنات الناس بالكلام المعسول والرسائل والمواعدات، وليس ذلك صادرا عن تدين في الواقع، فلم ينتشر التدين آنذاك، ولكن كان كثير من شباب ذلك الوقت غير المتدين يراها منقصة لرجولته وشهامته ويشرخ قيمته في المجتمع لو علم عنه والد الفتاة أو أحد أقاربها أنه يفعل مثل ذلك.
الرسالة الثانية أن البنت السعودية في السبعينيات تحب الفتى الأجنبي وتفضله على السعودي كما حدث في إعجاب عزيزة بالمصري ومزنة بالفلسطيني، وهو غير صحيح تماماً وتشويه لصورة مجتمع السبعينيات، فإن فتاة تلك الفترة لم تكن تنظر هذه النظرة لغير السعودي ولا تطمح فيه بل كان أملها وطموحها في زوج سعودي بل يكون من أهلها وجماعتها، اليوم تغيرت الأمور وصارت البنت تتقبل أن ترتبط بشاب سعودي من منطقة بعيدة فمثلا بنت نجد توافق أن ترتبط بابن الجنوب والعكس ولكن هذا لم يكن مألوفا آنذاك، فما بالك بطمع الفتاة السعودية بغير السعودي! لاشك أنها إغراق في البعد عن الواقع وتصوير مزيف للحقائق.
الرسالة الثالثة هي رسالة توجيهية سلبية للبنت المراهقة بالاحتيال على الأبوين بالكذب لتحقيق الأهداف غير السوية كما حدث في الكذب للذهاب للسوق لرؤية الحبيب أو للذهاب لعيادة الطبيب لمقابلته هناك، وكذلك الكذب لإنقاذ الزميلة من موقف محرج ستنكشف فيه خيانتها لأهلها كما كذبت الجازي عندما قالت لأم عواطف أنها هي من أهدتها عقد الذهب الذي هو في الأساس هدية من عشيقها سعد، وكما تكرر هذا الكذب «الإنقاذي» في مواقف أخرى أيضا كانت ستؤدي إلى كشف مخالفة إحدى البنات أو الشباب أمام الأبوين، ونعتقد أن الانكشاف نتيجته ستكون غالبا معالجة الموقف بالحسنى وليس بالضرورة سيكون سيئا كما صور المسلسل آباء وأمهات تلك الفترة من خلال هذه المواقف الإنقاذية! ربما يوجد آباء قساة لا يحسنون التصرف -وهو موجود إلى اليوم- لكن بطل القصة أبا إبراهيم لم يكن كذلك فلماذا استخدم المسلسل هذه الصورة السلبية غير القويمة دونما مبرر!
الرسالة الرابعة تمرد البنت على سلطة أسرتها والتي ظهرت واضحة في أكثر من مشهد وصاغتها أكثر من عبارة وردت على لسان راوية القصة (مذكرات عزيزة)، وبلغت ذروتها في تخطيط عزيزة للهروب والسفر إلى مصر والذي باء بالفشل، ثم الهروب الأخير مع جزاع، كما تكررت أيضا هذه الرسالة في محاولة هروب مزنة مع الشاب الفلسطيني في تمرد على سلطة الأم والأخ الأكبر، ومهما ادعى واضعو المسلسل سواء كاتبة القصة أو واضعو السيناريو أن هذه مجرد أحداث خيالية لخلق حالة من التشويق فإنه عذر غير مقبول طالما أن القصة في مجملها تتجه بقوة نحو تقديم صورة مجتمع السبعينيات، ومهما تنكر أصحاب القصة لهذه الغاية فإن ظهورها كالشمس للمشاهد (ولقارئ القصة) يلغي كل عذر وتبرير، لأن العمل الأدبي كما ذكرت مسبقا يكون في عهدة التفسير المجمع عليه لدى جمهور المتلقين طالما أنه تم نشره، ولا عبرة بمقاصد الكاتب وادعاءاته. هذا وللحديث بقية حول رسائل هذا المسلسل الأعشى.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً