فيصل بن عبد الله بن محمد آل سعود
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (سورة فصلت الآيتان 34 - 35).
يا لها من لغة، ويا لها من بلاغة ويا لها من حكمة. لغة القرآن الكريم أعظم وأسمى وأبلغ لغات الحوار.
سمعت توجيهات سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز أعزه المولى ورعاه في مجلس الوزراء المنعقد يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من شهر شعبان الموافق 27/ 2/ 2025م، حيث أكد يحفظه الله ويعزه ويرعاه: «الحوار هو السبيل الوحيد لحل الأزمات الدولية». هذه رسالته وقبل ذلك هي رسالة ديننا العظيم.
الحديبية وصلحها من خلال حوار سيد البشر ومشركي مكة هو أعظم ما سن للبشر من المولى عز وعلا، رسول الله يقف ويحاور ويتنازل ما أعظمها من رسالة للبشرية. هذا هو ديننا وهذه رسالة أمتنا.
ونحن في مملكة الخير والنماء والاستقرار نرى مكانتنا بقيادة ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان في عالم اليوم المتصارع وهو يتجه إلينا طالباً وساطتنا للحوار في أعقد مشاكلة.
الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية دولتان عظيمتان تستجديان مملكتنا لتكون ساحة لقاء لعل وعسى أن يوفق المولى ويتوصل الطرفان إلى اتفاق ينهي حالات الحرب والدمار التي عصفت منذ سنوات، ملتهمة الأرواح قبل كل شيء ومسببة دمارا وتوترا لا تحمد عقباه. ولا يخفى على أحد مساعي سموه -يحفظه الله- في طرح ساحة الحوار مفتوحة للأشقاء في سوريا ولبنان، ودعم المملكة وموقفها الثابت لقضيتنا الأولى بحل الدولتين والالتزام بمبادرتنا العربية.
نعم، مملكتنا أرض الحضارات ومنبع الحوارات، تاريخ بداية الخليقة بدأ بحوار في حضرة وعلى لسان الخالق جل وعلا، ثم نزل إلى الأرض ليكون الحوار قصة في كل زمان ومكان وتكون جزيرة العرب ومملكتنا مسرحه على مر الأزمان والحضارات.
الحوار نشأ قبل خلق الكون والكائنات وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) سورة البقرة.
أبونا آدم وأمنا حواء، هما من أول من بدآ لغة الحوار، توالت الحضارات وأرسلت الرسل لتحاور وتوصل رسالة الحق بالحوار إلى العالمين. ثم كانت الخاتمة في جزيرة العرب برسالة حملها خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم رحمة للعالمين، وكانت فيها أعظم رسالة حوار في تاريخ البشرية بصلح الحديبية.
تزخر الحضارة الإسلامية بالكثير من الحوارات، وهنا يجب أن نتوقف عند الحوار ودوره.
يُعرف الحوار، عموماً بأنه عملية تشاور متبادلة هدفها السعي وراء تحقيق التفاهم المشترك عبر بوابة الاستماع الفعال والعاطفي من أجل اكتشاف أوجه التشابه وفهم الاختلافات في وجهات النظر المتنوعة «الحوار في المعظم يمليه المنتصر، وكثيراً ما كان هو المغتصب لآداب الالتزام بما يتفق عليه في الحوار، إلى أن جاء الإسلام بتعاليمه السامية وآدابه ليحترم ويؤكد الالتزام والعمل بنصوص ما يتوصل إليه بين المتحاورين». ويقول المولى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود 118)، فسبحان الله الاختلاف هو سمة من سمات الحياة التي قدرها المولى لعباده، وهنا تأتي الحكمة الإلهية للتواصل والحوار حيث الاختلاف هو أساس الجدل في قول الحق مخاطباً رسوله إلى العالمين: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران: 159).
بالحوار الهادئ، وبالحوار الهادف الرحيم الكريم، أخذ رسول الأمة بقلوب الناس إليه وحببهم في رسالته ودعوته، ولم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم- متشدقاً ولا متفيقهاً ولا مختالاً ولا متعالياً بل كان بشوشاً لبقاً سريع البديهة، يختار ألفاظه وينتقي كلماته كما ينتقي أطايب الثمر، يحاور الناس ويحدثهم حديث طالب الحق ولا شيء غير الحق، لا يريد الظهور ولا يريد الغلبة لكنه يرجو ويأمل أن يكون الناس كل الناس على حال من الهدى والتقى، وعلى حال من العفاف والغنى، لم يكن يرفع صوته، ولم يكن يتجهم في وجوه الناس، لم يكن يعرض بوجهه إن حادوه بل كان يقبل عليهم ويسمع لهم حتى يفرغوا من حديثهم أدباً وتواضعاً منه - صلى الله عليه وسلم-.
وقال تعالى مخاطباً عبده ورسوله: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) هذه الرسائل الإلهية وهذه الطباع المحمدية هي ما يجب علينا أمة الإسلام.
وخصوصاً ما ينبع من أرض الحرمين، والدور الذي نؤمن ونعمل عليه وتلعبه قيادتنا لتقرب بين وجهات النظر التي عادةً من أسبابها عدم وضوح الرؤية للموضوع من كل جانب، و دون دليل أو برهان، ومن أهم الأسباب هو التعصب للرأي.
مما سبق التذكير به في رسالة مبادئنا التي حكمتنا بها، وشرعتها لنا رسالة الحق، ومما علمنا به وهدانا إليه تعاملاً وأسلوباً وخلقاً رسول أمتنا، نجد من أساليب الحوار البناء، الالتزام بالصدق والموضوعية، وإقامة الحجة بمنطق سليم بهدف الوصول إلى الحقيقة، كذلك التواضع والالتزام بأدب الحوار بإعطاء المعارض حقه في التعبير، وتحديد مسألة الحوار واحترام الرأي الصائب المبني على الحقائق الثابتة.
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (العنكبوت 46).
أكثر القضايا التي يكثر فيها الجدل معاملة المسلمين لغير المسلمين، والعكس عن ذلك، وحقوق المرأة، وتنظيم الأسرة، الحوار بين الخالق والمخلوق، حواره جل شأنه مع رسله والحوار بين الرسل وأقوامهم (آدم، إبراهيم، هود، موسى عليهم السلام).
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الممتحنة: 8).
بلاد الحرمين الشريفين تنبع منها رسالة الأمن والأمان، والسلم والسلام والعدل والاعتدال، فقد قامت على تحكيم كتاب الله وسنة رسوله عليه أفضل الصلوات والتسليمات، فمنذ الدولة السعودية الأولى تحلى أئمتها بصدقهم مع الله سبحانه وتعالى، وتمسكهم بالعقيدة الصحيحة، وتواضعهم للعلماء وعطفهم على العباد في سائر البلاد، واللين في التعامل مع الحزم في الحكم، كانوا إذا أهمهم أمر أو أرادوا إنفاذ رأي، يرسلون إلى خواصهم من رؤساء البوادي واستشارتهم، ثم إلى خواصهم من أهل الرأي وأهل العلم من الدرعية.
الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن تعكس مقولته: «الإنسان يقوم على ثلاث فضائل، الدين والمروءة والشرف، وإذا ذهبت واحدة من هذه سلبته معنى الإنسانية».
فالإنسان الذي يريده قواماً لهذه الدولة يقول فيه: «أريد رجالاً يعملون بصدق وعلم وإخلاص، حتى إذا أشكل عليَّ أمر من الأمور رجعت إليهم في حله، وعملت بمشورتهم فتكون ذمتي سالمة وتكون المسؤولية عليهم، وأريد الصراحة في القول، وثلاثة أكرههم ولا أقبلهم: رجل كذاب يكذب عليَّ متعمداً، ورجل ذو هوى، ورجل متملق، هؤلاء أبغض الناس عندي».
يستمد عبدالعزيز قوته من شعبه الذي طلب منهم أن يشاركوه الرأي، ويسدوا إليه الشورى التي حث عليها ديننا الحنيف، وأن يختاروا ما هو منهم أهل لذلك، فيقول: دعوناكم لانتخاب أعضاء مجلس الشورى الجديد، فالواجب يقضي ألا ينقاد الإنسان في مثل هذه الحالة إلى قلبه، لأن القلب يكون دائماً ميالاً، يجب أن تنتخبوا الأكفاء من أهل الخبرة، بحيث إذا قام هذا المجلس على أساس قويم نجني من ورائه الفوائد الجزيلة، يجب أن تنتخبوا من تعتقدون فيهم الإخلاص في العمل والقدرة عن الدفاع عن حقوق الأهلين؛ لأن الحكومة تأخذ حقها على كل حال، أما الأهلون فهؤلاء أعضاء مجلس الشورى هم الذين سيكونون وكلاء عن الشعب، فإن أحسنتم اختيارهم وانتقاءهم أحسن هؤلاء الدفاع عن حقوقكم فأحسنتم بذلك للبلاد والعباد».
نعم، الحوار ثم الحوار ثم الحوار، أكرمني المولى وشرَّفني في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه المولى وأسكنه فسيح جنانه - في رمضان عام 1993م أن أحضر أول تجربة لي على ذاك المستوى العالي، عندما جمع إخواننا الأفغان في مكة المكرمة بعد خروج قوات الاتحاد السوفيتي؛ حيث وقّعتْ اتفاقية الصلح والسلام.
أما علاقتي الحقيقية مع الحوار كانت بدايتها مع «ملك الحوار» الملك عبدالله بن عبدالعزيز -طيب الله ثراه- عندما أعلن بكلماته بمنى عام 2005م دعوته لمؤتمر إسلامي بمكة المكرمة، وطلب مني أن أوصل رسالة للبروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي، وحثه على الإسراع بالترتيب لدعوة المملكة إلى قمة إسلامية استثنائية في مكة عام 2005م، حيث دعا خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في كلمته إلى المجتمعين إلى «أمة إسلامية موحدة» لحكم يقضي على الظلم والقهر، وتنمية شاملة تهدف إلى القضاء على العَوز والفقر.. وانتشار الوسطية التي تجسد سماحة الإسلام.. وتقنية مسلمة متقدمة.. وبناء شباب مسلم يعمل لدنياه كما يعمل لآخرته دون إفراط أو تفريط.
ومن هنا، كان لي الشرف العظيم عندما استدعاني - يرحمه الله- بعد عصر يوم خالد بالنسبة لي في قصره بالمغرب الشقيق، وقال لي: فيصل، لقد قررت أن أذهب إلى الأمم المتحدة بدعوتي للحوار، ووددت أن أطلعك وأخبرك بذلك. قلت سيدي: أنت لها وهذه رسالتك منذ دعوتك في الطائف والتي سمعناك تأمل بتحقيقها منذ أكثر من ثلاثين سنة عندما اقترحت على أخيك فهد بإقامة مدينة علمية بالطائف تستقطب العقول المسلمة وغير المسلمة.
كانت رسالتك تحمل أساساً للحوار باستقطاب العقول المسلمة لقرب الطائف من مكة المكرمة، وغير المسلمة لموقع الطائف ومناخه.
الحوار كان له أساس في حياة عبدالله بن عبدالعزيز فتجربته في الانفتاح في شبابه بأسفاره وتعرفه على الشعوب المختلفة، وخصوصاً بإقاماته ببيروت، ومخالطته لمختلف الطوائف والمذاهب والأديان كانت من أهم الأسباب في تبنيه لمفهوم الحوار.
توجيهي أثناء خدمتي في الحكومة لدعم برنامج للحوار في منظمة اليونسكو، ومشاركتي في تقديم رؤية المملكة في التعليم كأساس للحوار في مركز الملك عبدالله للحوار بين الحضارات في فيينا، كذلك مشاركتي مع مجموعة «الأغر» بمعرض «ألف اختراع واختراع» في مقر الأمم المتحدة، تماشياً مع تقديم الملك عبدالله بن عبدالعزيز رؤيته لحوار الحضارات إلى العالم من خلال منبر الأمم المتحدة عام 2009م. كما كان لمشاركتي في تبني المملكة مع منظمة اليونسكو لإقامة أول مؤتمر لشباب العالم للحوار بجدة.
وأخيراً، وليس آخراً كانت تجربة تدشين وبعث رسالة «رسل السلام» لشباب العالم من أرض الحرمين ومن جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية عام 2011م.
الحوار مبدأ حددته الشرائع السماوية، وأقرته التنظيمات البشرية بناءً على القيم الإنسانية المشتركة؛ فمفهوم التربية والتعليم يرتبط ارتباطاً وثيقاً ببناء شخصية الإنسان الحوارية، كما أن العدالة الاجتماعية أساس في إلغاء العداء بين الثقافات لتبني الحوار على أسس العقد الاجتماعي القائم.
«فالسلام يبدأ من العقول، وفي العقول فقط يبدأ السلام».