د. عبدالحق عزوزي
سبق وأن أعطيت محاضرة للسادة أعضاء مجلس إدارة شركة «سفران» Safran الفرنسية لصناعة الطيران، وهي واحدة من كبريات شركات صناعة الطيران في العالم،... ولأول مرة في تاريخها عقدت شركة «سفران» مجلس إدارتها السنوي خارج فرنسا وبالضبط في مدينة فاس المغربية، تثميناً للخطوات التي يقوم بها المغرب والاستقرار الكبير الذي يعرفه البلد مقارنة مع دول المنطقة،... وأرجعت عوامل استقرار وتطور المغرب إلى ثلاثة أسباب رئيسية ألخصها فيما يلي:
- العامل الحضاري التاريخي: المغرب احتفل سنة 2008 بذكرى مرور اثني عشر قرناً على تأسيس الدولة الإسلامية الأولى فيه. وكان لفاس، أول عاصمة للمملكة، دور كبير في تأسيس الدولة المغربية والمواطن المغربي الذي عرف بانفتاحه وقبوله بالآخر أياً كانت ديانته.
وكان من آثار توسيع فاس، ظهور حركة علمية، انطلاقاً من جامع القرويين الذي أسسته السيدة فاطمة بنت محمد الفهري المكناة أم البنين، عام خمسة وأربعين ومائتين للهجرة (859م) في عهد يحيى حفيد إدريس الثاني، ثم جامع الأندلس الذي أنشأته بعد ذلك أختها السيدة مريم، وكانتا قد وفدتا ضمن الأسر التي قدمت من القيروان إلى فاس في ذلك العهد. ويمكن القول إن المدينة أصبحت بفضل هذين الجامعين - ولا سيما القرويين- عاصمة علمية تضاهي قرطبة في الأندلس، ومركزاً دينياً للفقه المالكي الذي اختاره المغاربة واستقروا عليه -إلى جانب العقيدة الأشعرية- ابتداء من منتصف القرن الثاني الهجري، حتى غدا من أبرز ظواهرهم الفكرية، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق. واكتسبت مدينة فاس مركزية لا توصف، ليس بالنسبة للمغرب فحسب، ولكن للعالم الإسلامي كله، إذ غدت قبلة الفقهاء الوافدين إليها بأفواج كبيرة من كل حدب وصوب، لاسيما من القيروان والأندلس أواخر القرن الثاني الهجري وأوائل الثالث، على نحو ما يحكي التاريخ عن وفود القيروانيين والأندلسيين الذين كانوا في معظمهم من الفقهاء المالكيين، ووفود اليهود الذين اضطهدوا في الأندلس، والرحالة والطلبة والعلماء من كل الديانات على نحو ما يُذكر عن قدوم جربير (Gerbert d»Aurillac) الذي هو البابا سلفستر الثاني، إذ يقال إنه زار فاس بعد منتصف القرن العاشر الميلادي، وأخذ الحساب عن علماء القرويين، وإنه هو أول من أدخل الأرقام العربية إلى أوروبا.
ولم يكن غريباً في سياق هذا التطور المتنامي، أن تحتضن فاس جموع الوافدين إليها من مختلف الجهات، وأن تصهرهم في بوتقتها، وتدمجهم في مجتمعها المتحرك الجذاب، القابل لمثل هذا التفاعل الذي التقى فيه الأمازيغ بالعرب الوافدين من الأندلس والمشرق، وكذا بالأفارقة القادمين إليها من جنوب الصحراء، واليهود الذين أتوا من مناطق النزاع ووجدوا في المواطن المغربي قمة في التسامح وتجسيداً لروح الدين الوسطي المعتدل.
- طبيعة الشخصية المغربية التاريخية: وهي التي مكنت اليوم الفاعلين السياسيين والمجتمعيين داخل المجال السياسي العام، من إنجاح الميثاق السياسي والتعاقدي خلافاً لكل دول المنطقة، انطلاقاً من مبادئ التنازل والتوافق والثقة التي عليها نجاح الميثاق السياسي بين النخبة السياسية في الحكم والنخبة السياسية في المعارضة. وقاعدة التنازلات المتبادلة يجب أن تكون مقرونة بجهد فكري وميداني بل ورياضي يجعل كل الأطراف تعي حدود التنازلات وحساسية المجال التفاوضي السياسي. كما أن ذلك يستلزم ثقة متبادلة بين الأطراف ومخرجاً عقلانياً حتى تصبح المعادلة إيجابية، وإذا كانت سلبية فإن الآليات الديمقراطية تتلاشى وتتلوث..
- ثم هناك الموقع الجيوستراتيجي للمغرب كدولة مغاربية وعربية تقع في شمال أفريقيا وبقيت لقرون صلة وصل بين ضفتي المتوسط وبين أوروبا وأفريقيا، فهو الذي نشر الإسلام في منطقة الساحل جنوب الصحراء عن طريق الزوايا، والعديد من دول أفريقيا اليوم تطرق باب التسامح والتكوين الدينيين المثاليين في المغرب، لتكوين أئمتها فوق التراب المغربي بما في ذلك دول مغاربية كتونس.
فهذه بعض العوامل في نظري التي كونت الإنسان المغربي وطبعت قواعد الثقة والتسامح والتنازل في حياته اليومية، وهي التي أوصلت المجال السياسي إلى هو ما عليه اليوم من تقدم، والذي عليه مناط الاستقرار والثقة عند المستثمرين الدوليين.