عايض بن خالد المطيري
في خضم التغيرات والانفتاح الثقافي المتزايد الذي يشهده عالمنا اليوم، بات من الضروري أن نتوقف قليلًا لإعادة النظر في بعض المفاهيم التي أصبحت رائجة، لكنها في كثير من الأحيان تُفهم وتُمارس بصورة مشوهة.
ولعل أبرز هذه المفاهيم الجرأة والثقة بالنفس، مقابل قلة الأدب وانعدام الحياء.
فرغم وضوح الفرق بين هذه القيم عند التأمل الأول، إلا أن الواقع يكشف أن الخط الفاصل بينها بدأ بالتلاشي، خاصة مع تصاعد موجات تمجيد السلوكيات الصادمة تحت مسمى «الجرأة»، أو التغني بالعبارات الجارحة بوصفها «ثقة بالنفس».
إن الثقة بالنفس تنبع من وعي الإنسان بذاته وقيمته، ومن قدرته على التعبير عن آرائه بثبات واتزان دون الحاجة إلى استعراض أو تصنع. هي حالة من التوازن الداخلي، تنعكس تلقائيًا في سلوكه وحديثه وقراراته.
أما الجرأة الحقيقية، فهي الشجاعة على قول الحق واتخاذ المواقف الصعبة في الأوقات الحرجة، مع الحفاظ الكامل على حدود الأدب واحترام مشاعر الآخرين.
في المقابل فإن قلة الأدب تظهر حين يُستخدم اللسان سيفًا للتقليل من شأن الآخرين أو إيذائهم، بينما تمثل قلة الحياء تنكرًا لقيمة خُلُقية أصيلة تُهذب الجرأة ولا تعارضها.
لقد أسهم الإعلام بمختلف وسائطه، وعلى رأسها وسائل التواصل الاجتماعي، بشكل مباشر - وأحيانًا دون قصد - في ترسيخ هذه الفوضى المفاهيمية.
حينما يُحتفى بشخص لكونه «صريحًا» رغم أن صراحته تلبست بثوب الإهانة، أو يُروج لشخصية تطلق الأحكام الجارحة ويُقال عنها إنها «لا تخشى في الحق لومة لائم»، فنحن أمام صورة مختلطة لا تعكس جرأة ناضجة بقدر ما تكشف عن فراغ أخلاقي وتدهور في الذوق العام.
ولا يختلف المشهد كثيرًا في الفضاء الرقمي، حيث تتدفق التعليقات الجارحة تحت شعارات «حرية الرأي»، وكأن الحرية تبرر الانفلات، وكأن التعبير المشروع لا حدود له ولا ضوابط تحكمه أو تهذبه.
إن جوهر الفرق بين الجرأة وقلة الحياء يكمن في النية والأسلوب. فالجرأة تهدف إلى الإصلاح أو التعبير الناضج، بينما تنبع قلة الحياء غالبًا من رغبة في لفت الأنظار أو فرض الرأي بقوة الصوت لا بقوة الحجة والمنطق.
التفريق بين الأمرين لا يحتاج إلى كثير من الشرح اللغوي، بقدر ما يتطلب وعيًا تربويًا وأخلاقيًا، يُغرس في البيوت، ويُغذى في المدارس، ويُرسخ عبر الإعلام، ويتكرس من خلال الممارسة المجتمعية الواعية.
وعليه، فإن الحياء يبقى شُعبة من شُعب الإيمان، والثقة بالنفس تظل سمة من سمات النضج النفسي والاجتماعي.
أما قلة الأدب، فهي في جوهرها انعكاس لعجز عن التواصل الحضاري، ومؤشر على افتقار صاحبها لأبسط قواعد الحوار والاحترام المتبادل.
ولأن بناء مجتمع راقٍ لا يتم عبر رفع الأصوات أو فرض الآراء، بل عبر ترسيخ الوعي والالتزام بالمبادئ، فإن القوة الحقيقية تكمن في القدرة على التعبير بحزم وأدب، وفي الثبات على القيم دون المساس بكرامة الآخرين أو التقليل من شأنهم.