طارق مصطفى القزق
في المقال السابق بعدما حللنا مفهوم التوسكا، وأنواعها، قد يتساءل بعضهم لربما أن الثقافة الروسية أكثر من يعبر عن هذه الإشكالية!.. أقول لكم إنكم على حق، بل وهي من سيساعدنا في معالجة تبعات هذه الإشكالية، من خلال ما قرأته في روايات بعض الكتاب الروس. وفي رأيي أنه لا يوجد أفضل من عبر عن حالة التوسكا والظروف المصاحبة لها سوى دوستويفسكي في رواية الجريمة والعقاب بقوله: «ليس الفقر رذيلة، ولا الإدمان على السكر رذيلة، أنا أعرف ذلك أيضا، ولكن البؤس رذيلة أيها السيد الكريم» ولم يكتف دوستويفسكي بوصف الحالة، لكنه وضع فاصلا جوهريا بين الفقر وبين البؤس بقوله «يستطيع المرء في الفقر أن يظل محافظا على نبل عواطفه الفطرية، أما في البؤس فلا يستطيع ذلك يوما، وما من أحد يستطيعه قط، إذا كنت في البؤس فإنك لا تطرد مجتمع البشر ضربا بالعصا بل ضربا بالمكنسة، بغية إذلالك «عَبّر دوستويفسكي عن حالة الصراع بين النقيضين الأثرياء والفقراء، جميعهم يسعى نحو المادة، والملذات، والسيطرة على الآخر ولكن بطريقة سريعة، دون تغيير حقيقي في جوهرهم وعقليتهم. ومن هذا المنظور الفكري، فإن ما نواجهه اليوم في حياتنا العملية هو نوعا من التوسكا الناتجة عن التماهي بين الذات والعمل، وفصل هذا عن هذا دوستويفسكي في رواية التمساح تعبر عن العلاقة بين الموظف الذي «بلعه التمساح» وبين الرجل الليبرالي الاقتصادي الذي لا يفكر في أي شيء سوى زيادة الأرباح حتى ولو على حساب الموظف أو العامل، فلا يهمه حياته الشخصية أو العائلية حتى لو أكله تمساح فقط المهم المال، وعندما يخضع الموظف أو العامل للعمل ويتماهى معه فإن المعتقدات المصاحبة له ستكون مبررة لما يقوم به صاحب العمل حتى لو على حساب ذاته وتجلى هذا على لسان «إيفان ماتيفيتش» البطل المحوري في رواية التمساح بعد زيادة صاحب التمساح سعر التذكرة بقوله: «هو على حق فإنه ينبغي النظر إلي هذه الأمور نظرة اقتصادية، قبل كل شيء»!، هنا يكمن الشاهد في القول عندما تتحول قيم العمل الليبرالية الاقتصادية ومعتقداتها نوعا من الثقافة فإنها تصبح توسكا، أو كما يطلق عليها في علم الاجتماع «هندسة الرضا» وهي أن يكون هناك مبرر علمي وعملي لتعاستك وبؤسك، أيا ما كان هذا المبرر دينيا، ليبراليا، أو حتى علميا، مما تكيفك معاها حتى تفقد معرفتك بذاتك. ويبقى السؤال كيف نعيد ترميم ما أحدثته التوسكا ونعيش حياة جديدة؟:
إن كان النظم والمؤسسات لم تستطع في الوقت الراهن أن تعيد بناء نفسها وتطوير لكي تستطيع التأثير في عقول وثقافة أعضاء المجتمع لكي يكون أكثر تأثيرا في حياتهم وأكثر قدرة على مواجهة هذه التغييرات العنيفة، التي سببت لنا الصدمات، علينا أن نكون أكثر قدرة على إعادة بناء حياتنا.
هناك مساران علينا أن نسلكهما، الأول هو عن طريق إعادة تطوير المؤسسات وهذا من اختصاص أجهزة الدولة، أما المسار الذي عليك وعلينا أن نسلكه هو الذي يبدأ من داخلنا ومعتقداتنا، إليك بعض من هذه المعتقدات والمسارات في مجموعة مكثفة من الفقرات:
- إن كل خطوة ناجحة أو فاشلة لا تضع لها بالا، ولكن فكر في الخطوة التالية.
- اختر النخبة، يعيش الإنسان في جماعات، عليك باختيار مجتمعك الذي يشبهك وفي الوقت الذي نعيش فيه علينا أن نكون رحالة نكثر الانتقال علينا أن نكسب علاقات في كافة النظم ونكتسب الشخصية الخاصة بهم.
- إن النجاح الحقيقي ليس في النتيجة ولكن في السعي.
- لا تبحث عن منافسة أحد، ولكن الشخص الوحيد الذي عليك منافسته هو ذاتك، وما عليك فعله هو أن تكون أفضل مما كنت عليه في وقت سابق، ولذلك لك اختياران إما أن تنجح أو تنجح.
- لا تهتم بالقيل والقال!، لا تهتم بنظرة الناس لك!، ولكن كيف ترى نفسك، لا تهتم إذا كان أحدهم يحبك أو يكرهك، إذا كنت أحدهم سيحبك ستكون في قلبه وإذا كان يكرهك ستكون في عقله.
- تأتي ثمرة ما تفعل بالإخلاص، ولذلك يذكر ابن عطاء السكندري في حكمه، «ادفن نفسك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه»، المعنى الكامن في هذه الحكمة هو أن لا تبحث عن الشهرة السريعة، ولا تظن أنك صاحب علم أو بقراءتك للكتب أصبحت لديك القدرة على تقديمه للناس؛ وعليك بالتعليم العميق، والعمل والاجتهاد ثم إظهاره للناس، والأفضل أن تجعل عملك يتحدث عنك لا تتحدث أنت عن عملك.
- الامتنان، أن تكون ممتنا للظروف والأحداث والمواقف التي جعلت منك شخصا صلبا لا ينكسر ولا ينهزم، أن تمتن للمواقف التي أظهرت لك مدى قوتك وحقيقة إرادتك التي كنت تظن أنك لست بهذه الإرادة، أن تكون شخصا قويا لا يتطلب منك سوى أن تكون ما أنت عليه وأن تؤمن بقدرتك، أن الظروف والتجارب هي أفضل معلم.
- إذا استطاع شخص أن يفعل شيئا ما فأنت تستطيع.. ابتعد عن السوداويين الذين يتهمون الظروف بأنها سبب عدم نجاحهم، لا تتحدث عن أفكاركولا أحلامك أمام الناس، عليك أن تكون أقوى في صمتك، فالصمت هو قوة الناجحين.
- فكر في القضية وليس في ذاتك أنت، عندما يكون هدفك هو ذاتك ستبحث عن النجاح السريع، والأشخاص التي تفكر في ذاتها هي من لا تكمل الطريق، كن هدفك القضية فالصبر هو مفتاح القوة، لا تستعجل النجاح ولكن عليك أن تعمل، من أجل هدف سامٍ..
- عليك أن تعطي لكي تحصل، عليك أن تسأل نفسك سؤالا: ماذا قدمت للآخريين لكي أحصل منهم على ما أريد؟.
- النبيل هو الشخص الذي، كلما رأيته تجده أفضل مما كان عليه من قبل، من قوة النبلاء أن تستمر في النجاح.
- توازن بين الحياة الشخصية والعملية، لا تجعل حياتك العملية تطغى عليك فتؤثر في مظهرك الخارجي وعنايتك الشخصية وحتى الشخصية، فالعمل البيروقراطي قد يؤثر في شخصية وحياة العاملين فيه يكسبهم عادات رتيبة، وتفكيرا غير قابل للتغيير، وهذا يؤثر في كل جوانب حياتهم وحتى أذواقهم وتربيتهم للأولاد دائما وأبدا، لا تجعل أي عمل يؤثر فيك إطلاقا، وأفضل من عبر عن هذا هو نيتشه عندما قال «شهوة العمل لدى بعض الأفراد، تذيب الغرائز الدينية وبالتالي تهيئ لعدم الإيمان»، عندما تكون حياتك هي العمل والعمل هو حياتك، عندما تفقد هذا العمل ستفقد حياتك وتفقد إيمانك.
لأن بالأساس لا يوجد عمل ثابت ولا أمان وظيفي، مما يجعلك أكثر مرونة من الناحية الفكرية وصلابة نفسية تتقبل التغيير، الاهتمام بالنفس وتخصيص وقت لتطوير نفسك وذاتك لتحسين حياتك وتستمتع بها.
- كن ذا عقيدة راسخة لا تتزعزع، وعقل راجح لا يتزلف، ونفس هذبت بالشقاء، وجسد صلب.
وفي الختام، إن ما أرغب في إيصاله هو أن نكون واعين بذاتنا لا خاضعين لها، وعلينا أن نعيد تحديد وتشكيل ثقافتنا الشخصية، ولا ننجرف مع تيار التوسكا الذي سيتسبب في هلاكنا، وننفتح على العالم بطريقة تمكننا من التكيف معه ليس بثقافته التي يعرضها علينا من خلال الشاشة أو السلع الاستهلاكية، ولكن من خلال الطبيعة الحقيقية للحياة، فالحياة بها من الخيرات والجمال الذي يكفي أن يعيد إحياء نور أرواحنا التي أطفأها الجفاء المادي نعيش فيه .