تغريد إبراهيم الطاسان
في العاشر من مايو الحالي، وبين قاعات يختلط فيها عبق الخبرة بحماسة التجديد، انطلقت في دولة الكويت أعمال الملتقى الإعلامي العربي في دورته العشرين، برعاية كريمة من سمو الشيخ أحمد عبدالله الأحمد الصباح، رئيس مجلس الوزراء، في مشهد يليق بمكانة الإعلام في حياة الشعوب، ويعكس فهماً عميقاً لدوره المتجدد في زمن التحول الرقمي، ومن الكويت تُكتب السطور الأولى للمستقبل الإعلامي العربي..
الملتقى الذي تتواصل فعالياته حتى الثاني عشر من مايو، جاء هذا العام مختلفاً في مضمونه وموقعه من خريطة النقاشات الإعلامية العربية، بل ويبدو أنه يحمل وعياً استثنائياً باللحظة الفارقة التي يمر بها الإعلام في ظل موجات التكنولوجيا المتسارعة.
فقد اختار المنظمون شعاراً دقيقاً: «تحديات الإعلام في ظل تطور التكنولوجيا والتحول الرقمي»، وهو ليس مجرد توصيف للحالة، بل دعوة صريحة لإعادة التفكير في المسارات، وإعادة رسم أدوات التأثير، وتفكيك العلاقة الجديدة بين الوسيط الرقمي والجمهور العربي المتحول.
فالمسألة اليوم لم تعد فقط فيمن يملك المنصة، بل فيمن يملك التأثير، ومتى يتحول الفرد العادي إلى قوة إعلامية قد تفوق مؤسسة عريقة في لحظة واحدة.
اللافت أن دورة هذا العام لم تكن فقط نقاشاً عربياً داخلياً، بل شهدت حضوراً عربياً نوعياً تمثل في استضافة دولة الإمارات العربية المتحدة كضيف شرف، وهي استضافة لم تكن رمزية أو بروتوكولية، بل جاءت محمّلة برسائل واضحة: الاعتراف بتجربة إعلامية خليجية متقدمة، ومؤسسات تُجيد التعامل مع التحولات التقنية، وبيئة إعلامية بدأت مبكراً في بناء منظومات رقمية تتكامل مع حاجات العصر. فمشاركة الإمارات، بوفد يضم ممثلين عن الإعلام الحكومي والخاص، شكّلت إضافة نوعية للنقاش، وقدّمت نموذجاً عملياً لما يمكن أن يكون عليه الإعلام العربي حين يتقن توظيف التكنولوجيا دون أن يفقد هويته.
خلال أيام الملتقى، تواصلت الجلسات والحوارات وورش العمل التي لامست جوهر المهنة، من أبرز ما طُرح، النقاش الجاد حول الذكاء الاصطناعي في الإعلام: هل هو أداة مساعدة أم منافس؟ وكيف يمكن للمؤسسات الإعلامية العربية أن تتعامل مع الخوارزميات باعتبارها شريكاً في إنتاج المحتوى؟.
وقد حفلت الجلسات بعروض وتجارب واقعية من وسائل إعلام عربية شرعت في تبني هذه التقنيات، ليس فقط لتحسين الأداء، بل لإعادة تعريف شكل الخبر، وصياغة الخطاب الإعلامي في بيئة تتغير كل ثانية.
كما لم تغب الإشكاليات الأخلاقية والمهنية عن طاولة النقاش، فكانت معركة «مواجهة التضليل الإعلامي والأخبار الزائفة» حاضرة بقوة، حيث أجمع الحضور على أن المصداقية باتت التحدي الأول في عصر مفتوح، وأن الصحافة التقليدية لا يمكن أن تواجه هذه الموجة إلا إذا استعادت ثقة الجمهور.
كذلك، برزت قضية «الإعلام وصناعة الرأي العام»، وكيف تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي من أداة تعبير فردي إلى قنوات لصياغة الوعي الجماعي، وأحياناً لتوجيهه أو تضليله.
وما أضفى على الملتقى بعداً ثقافياً عميقاً هو التعاون مع منتدى الفكر والثقافة العربية في دولة الإمارات، حيث شهدت الجلسات المشتركة تحليلاً معمقاً لمسألة «تورط التكنولوجيا» في الإعلام، ليس فقط كأداة، بل كفاعل ثقافي له أثره في اللغة والمضمون وحتى في القيم المجتمعية التي ينقلها الإعلام.
ولا يمكن الحديث عن نجاح الملتقى دون الإشادة بالجهود الكبيرة التي يبذلها الأستاذ ماضي عبدالله الخميس، الأمين العام للملتقى، الذي استطاع على مدار السنوات أن يحافظ على زخم هذا الحدث، وأن يطوّره إلى منصة فكرية عربية جادة تجمع الخبراء بالمبتكرين، وتربط الأجيال الإعلامية ببعضها البعض، في مشهد تتقاطع فيه التجربة مع الطموح.
أما الحضور الشبابي، فقد كان لافتاً ومبهجاً. شباب من مختلف الدول العربية، صناع محتوى، إعلاميون ناشئون، وخريجو كليات الإعلام، شاركوا في الحوارات بحيوية، وكانوا جزءاً من المشهد لا على الهامش، في دلالة واضحة على إيمان الملتقى بدور الجيل الجديد، ليس فقط كمستفيد من التحول الرقمي، بل كقائد له.
ما ميّز هذه الدورة ليس فقط ثراء الموضوعات، بل أيضاً التنظيم الدقيق والانسيابية في انتقال الجلسات، وكرم الضيافة الكويتي الذي أضاف على الفعاليات دفئاً عربياً خالصاً.
لقد بدا الملتقى، بكل تفاصيله، مساحة حقيقية للتفكير في «إعلام المستقبل»، لا عبر التنظير وحده، بل بالممارسة، والتجارب، والتفاعل، والمواجهة الصريحة للأسئلة الصعبة.
في زمن لم تعد فيه السيطرة الإعلامية محصورة بيد الكيانات الكبرى، يقدّم الملتقى الإعلامي العربي نموذجاً نادراً للتكامل العربي في قراءة التحولات، والبحث عن موقع مشرف للإعلام العربي في الخريطة العالمية.
من الكويت، تبدأ الحكاية الجديدة.. حيث الإعلام ليس مرآة لما يحدث فقط، بل شريك في رسم ما سيحدث.