د.عبدالله بن موسى الطاير
عبر التاريخ، أعاد بعض القادة تشكيل المشهدين السياسي والثقافي لبلدانهم وللإقليم أو العالم من حولهم، وقادوا عبر تحولات هيكلية الانتقال من نظام حكم إلى آخر. الذين يكتبون التاريخ يتحيزون أحياناً، وفي أحايين أخرى ينظرون للقيادة والتحول من منظور أيديولوجي محدد، ومن يخرج عن سياقه يكون محله التجاهل. ميزة هذا العصر الذي نعيشه أن المعلومة حرة في وصولها وفي الوصول إليها، وبذلك يمكن معالجة بعض التحيزات التي مارسها المؤرخون، إذا أحسن التدوين.
تحفل كتب التاريخ بذكر الإسكندر الأكبر على سبيل المثال الذي قاد إمبراطورية شاسعة امتدت من اليونان إلى الهند، ناشرًا ثقافة شكلت الحضارات لقرون. كذلك الحال مع قسطنطين الأول الذي أسس الإمبراطورية البيزنطية وجعل المسيحية الديانة الرسمية لروما، مؤثرًا على التاريخ الديني والسياسي للقارة. على الجانب الآخر من المحيط، فإن إبراهام لنكولن أنهى العبودية في الولايات المتحدة وقاد البلاد للوحدة خلال الحرب الأهلية. وبوسائل غير الحرب والعنف قاد المهاتما غاندي حركة استقلال الهند بالمقاومة السلمية ضد الاستعمار البريطاني، ملهمًا حركات تحرر عالمية كثيرة، ربما يكون من بينها نيلسون مانديلا الذي أنهى الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، قائدًا انتقالًا سلميًا في بلاده. ولم يحظَ أتاتورك، الذي حوَّل تركيا من الخلافة العثمانية إلى دولة علمانية حديثة، بحضور كبير في التدوين العالمي عن القادة التحويليين.
على الطرف المقابل، الملك عبدالعزيز - رحمه الله - لم يُكتب عنه بالشكل الذي يليق به في المصادر الغربية كقائد لتحول عظيم حدث في مطلع القرن العشرين، لأنه ببساطة كان من خارج ثلاثية المسيحية الليبرالية الديموقراطية. الملك عبد العزيز لم يحول نظام حكم قائم إلى نقيضه، وإنما حول منطقة مترامية الأطراف تتنازعها الفوضى وغياب مفهوم ومنطق الدولة إلى دولة وطنية معاصرة، صمدت في وجه تحديات التأسيس بما في ذلك تحدي مصالح القوى الاستعمارية في ذلك الوقت، والقلق الداخلي بين مكونات اعتادت على أطر ضيقة المفهوم للحكم والمصالح، وتخطى إرهاصات الحرب العالمية الثانية بموارد محدودة وهمة عالية لا حدود لها.
اليوم، بينما يواجه النظام العالمي اضطراباته - التي اتسمت بتصاعد الشعبوية، والاضطرابات التكنولوجية، وتحديات معايير الحكم الرشيد - تساور الناس مخاوف بشأن التغيير السريع الذي يمكن أن يضرب العالم أو أجزاء مهمة منه. يتردد صدى الخوف من فقدان الهوية الثقافية، أو الاستقرار الاقتصادي، أو القدرة السياسية. وتواجه المجتمعات المعاصرة تحولات مدفوعة بالعولمة والتراجع عنها، وأزمات المناخ، وديناميكيات القوة المتغيرة. ويبقى السؤال: هل يمكن للقيادة التحويلية أن تتصدى لهذه الاضطرابات دون تمزيق النسيج الاجتماعي للدول والكيانات؟ لا ريب أن التحديات في طريق القيادة التحويلية وعرة، وحاسمة مثل القدرة على الموازنة بين الرؤية الجريئة والاستقرار.
الربيع العربي الذي كان هدفه إحداث تغييرات عميقة -وفق أهواء خارج نطاق السياقات المحلية - على سبيل المثال، تحول إلى فوضى عارمة لا زالت المنطقة العربية تدفع أثماناً باهظة لها من استقرارها وثرواتها ودماء أبنائها.
في عالم متعدد الأقطاب والأزمات، تتنافس فيه الأيديولوجيات، وتتصارع مراكز القوى - على أرض الغير وينشط الوكلاء مدفوعون بالمحفزات والوعود، لتصفية حسابات القوى الكبرى التي تتجنب المواجهة المباشرة، تزداد تعقيداً مهمة القادة القادرين على صياغة رؤى واضحة تعزز الانسجام بين مختلف المكونات. ربما تكون سوريا مثالاً حديثاً للتحول من نظام إلى نقيضه، مع تحديات جمة أهمها الخوف من تهتك في النسيج المجتمعي يصعب رتقه.
إن القيادة التحويلية تتطلب الشجاعة والقدرة على التكيف، والعمل الجاد الذي لا يهدأ وفق رؤية واضحة، وفهم أوضح للممكنات والتحديات، والقدرة على إيصال فوائد التغيير بسرعة، والمحافظة على زخم المنجزات. بينما تواجه الدول تحديات وجودية، كالتحولات الاقتصادية التي يقودها الذكاء الاصطناعي، إلى إعادة التنظيم الجيوسياسي، وتداعي أركان العولمة، وتصاعد حدة الحمائية، فإن قيادة الأمير محمد بن سلمان للتحولات السعودية والإقليمية، وإسهامه العالمي اتسمت بالتشاركية، والاستجابة لتطلعات المجتمع المحلي الذي يتوق للحداثة والازدهار، والإقليمي الذي يبحث عن الأمن والاستقرار والتنمية.
ما أخشاه ألا نستثمر بالشكل الصحيح في تدوين اسم هذا القائد التحويلي، وتخليد منجزه الذي لا يقل بحال من الأحوال عن منجزات القادة العظام الذين غيروا بلدانهم والمنطقة والعالم من حولهم.
القيادة التحويلية قادرة على إعادة تعريف الأمم، مؤكدة على التوازن الدقيق المطلوب لإدارة التغيير العميق، ونهجها في معالجة مخاوف الناس من عدم الاستقرار الذي يضرب الإقليم، أو فقدان الهوية في عصر المواطنة الرقمية. بالقيادة الجريئة والحكيمة، تستطيع الدول تجاوز اضطرابات النظام العالمي الذي يترنح، وحالة عدم اليقين، وعبور الأزمات أقوى وأكثر ازدهاراً.