عبدالله إبراهيم الكعيد
في المرحلة الثانوية قبل أكثر من خمسة عقود كنت أستمتع بسرد مدرّس مادة التاريخ. أستاذ فلسطيني مبدع كان يعرض المادة بشكل مسرحي فيتفاعل مع كل كلمة يقولها. يجهر بصوتهِ في مواقف البطولة ويبتسم حين يروي تواضع الفرسان وقادة الجيوش بعد النصر في المعارك. كنت مبهورا بطريقة تقديمه تلك رغم إضافته قليل من (البهارات) لأحداث التاريخ التي يسردها.
كنت أتساءل حينها بيني وبين نفسي من الذي كتب ذلك التاريخ الضارب في عمق السنين الغابرة؟ كيف دوّن الكاتب الأول الذي عاصر تلك الأحداث وهو لا يملك أيّاً من أدوات التدوين؟ أم كان السرد الشفاهي هو المُعتمد حينها؟ من الذي راجع ودقق وأقرّ بصحّة ما وصل إلينا في عصرنا الحالي من تاريخ تبدلت فيه عصور وعهود وتغيرت حقب وربما مُسح الكثير من الأحداث أو تم فبركة بعضها وتبهير البعض الآخر. أُدرك بأن للمتخصصين في تحقيق تلك الأحداث معاييرهم التي يرونها دقيقة لكن يظل الشك واردا في كثيرٍ مما كُتب عن أحداث الماضي.
دعوني أوضح ما أود قوله عن اختلاف رواة أحداث التاريخ. تاريخنا المعاصر الذي شهدنا فيه الأحداث المفصلية وكيف كُتب. عاصرت أنا كاتب هذه السطور حرب الأيام الستة أو ما سُمي لاحقا بالنكسة، ثم عاصرت حرب أكتوبر 73 وأنا طالب عسكري في (كلية قوى الأمن الداخلي) حينما حرسنا موكب الفيصل العظيم أثناء استقباله للرئيس ريتشارد نيكسون الذي استجدى إعادة تصدير النفط لأمريكا بعد أن قرر الفيصل إيقاف الضخ والمشاركة المباشرة في الحرب ضد الكيان الصهيوني.
انقلاب الخميني على شاه إيران 1979 تلاه حرب الخليج الأولى، عراق صدام حسين مع إيران ثم حرب تحرير الكويت 1991 وبعد كل ذلك مناوشات حزب الله مع الصهاينة وتدمير جنوب لبنان، ثم إرهاب القاعدة وداعش وثورات ما سُمي بالربيع العربي إلى مأساة 7 أكتوبر 2023 في غزة.
الشاهد المعاصر لكل تلك الأحداث سيصاب بالدهشة لكمية الأكاذيب والتحريف الذي واكبها من قبل وسائل الإعلام. وهو ما يُثير التساؤل عمّا ستتناقله الأجيال القادمة عن تاريخ مصاب بتشويه مُتعمّد.
صفوة القول: كنا نُردد مقولة أن «التاريخ يكتبه الأقوياء» وفي رواية أخرى «يكتبه المنتصرون». ماذا عن ملايين الروايات المتناقضة عن تلك الأحداث الموجودة في بطون السيرفرات على الشبكة العنكبوتية؟ أيها سيصدق الناس في المستقبل؟ أرجوكم كفى، ارحموا قُرّاء التاريخ.