م. سطام بن عبدالله آل سعد
في لحظة يبدو فيها قطاع البقالة السعودي وكأنه يُحلّق في ذروة نموه، يكشف الواقع عن مفارقتين جوهريتين تستحقان الوقوف الجاد عندهما؛ الأولى علاقة طردية بين التحول التقني وتغير سلوك المستهلك، والثانية علاقة عكسية بين اتساع السوق واستمرار ابتعاده عن دائرة التمكين الوطني.
لقد أصبح هذا القطاع، الذي تجاوزت قيمته 232.5 مليار ريال، من أكثر القطاعات حيويةً في الاقتصاد السعودي. غير أن هذا الصعود ليس نتيجة عوامل تقليدية، بل نتاج طفرات تقنية وسلوكية متداخلة. فالتجارة الإلكترونية وحدها باتت تستحوذ على 13% من السوق، وتنمو بوتيرة 14% سنويًا، مدفوعة بوعي استهلاكي جديد يبحث عن السرعة، والقيمة، والتخصيص، بينما 34 % من الإنفاق الاستهلاكي يذهب مباشرة للبقالة.
وهنا تتجلى العلاقة الطردية، فكلما تسارع التحول الرقمي، وتعمّق فهم المستهلكين لحقوقهم، انتقلنا من سوق تقليدي إلى منظومة ذكية، تُعيد رسم قواعد اللعبة بوسائل جديدة كالعروض المخصصة وتحليلات البيانات والخصومات الموجهة. ومنظومة كهذه لا تتسامح مع التباطؤ، ولا تنتظر من يراوح في مكانه. لذلك، فإن القطاع اليوم على مفترق طرق، إما أن يحتضن التجديد الشامل ويُعيد هندسة نماذجه التشغيلية، أو يواجه مصير الزوال تحت عجلة التحول.
لكن، ورغم هذه الحيوية، يقبع في عمق المشهد خلل بنيوي صامت يتمثل في الاعتماد المزمن على العمالة الوافدة في إدارة وتشغيل هذا القطاع؛ إذ ليس من المنطقي أن يسهم قطاع يشكّل نحو 11 % من الناتج المحلي ويقود التحول الرقمي في سلوك المستهلك، بينما يبقى مفصولًا عن منظومة التمكين الوطني.
فهذه ليست مجرد مفارقة إدارية، بل إشكالية تنموية تُهدد العدالة الاقتصادية وتُفرّغ النمو من مضمونه المحلي.
والعلاقة هنا عكسية بامتياز، فكلما توسع السوق وحقق أرباحًا أكبر بوسائل حديثة، زادت خطورة أن هذه الأرباح لا تعود بالنفع على الداخل (الوطن والمواطن)، بل تتسرب إلى الخارج (الوافدين، المستثمرين غير المحليين)، مما يخلق نموًا اقتصاديًا غير عادل أو غير مستدام. إن من غير المنطقي أن نحتفل بالأرقام بينما فرص التشغيل الحقيقي للشباب السعودي تتلاشى داخل أحياءهم نفسها، وتُدار اقتصاداتهم اليومية من خارج سياقهم المجتمعي.
مستقبل قطاع البقالة لا يُقاس فقط بحجم السوق، بل بكفاءة توزيع مكاسب هذا السوق، ومن يُديره، ولصالح من يعمل. ولذا، فإن تجديد هذا القطاع يجب أن يكون ثنائي الاتجاه، تحوّل ذكي من الخارج، وتمكين وطني من الداخل، وهذه ليست وصفة فنية، بل خيار استراتيجي يُحدد إن كنا نريد اقتصادًا ينمو ليبقى، أم اقتصادًا يتضخم ليُنزع من جذوره.
** **
- مستشار التنمية المستدامة