عبدالوهاب الفايز
حيثما تولي وجهك في الشرق الأوسط ترى عالما مخيفاً مفتوحا للصراعات الدموية المدمرة لمقدرات الشعوب، وعندما انفجر الصراع الهندي والباكستاني كان الخوف من دخول الأسلحة النووية، ولكن الدبلوماسية السعودية كانت سباقة لاحتواء الأزمة مستفيدة من رصيد العلاقة القوية المتوازنة بين البلدين، ومع الأسف أن تنشط الآن في المنطقة (دبلوماسية الأزمات) بدل دبلوماسية الإعمار والبناء!
وطبيعي توسع الحاجة لدبلوماسية الأزمات، ففي هذا المسرح الكبير المفتوح في الهواء الطلق لكل الملهيات والمآسي السياسية ترى (بصمات الاستعمار الأوربي) الذي دام قرونا، بالذات الاستعمار الاستيطاني الامبريالي البريطاني، حيث ترك المنطقة مسرحا للأزمات التي زرعها وتسبب فيها، والآن الصراع الهندي الباكستاني حول كشمير تستمر فصوله منذ تقسيم شبه القارة الهندية عام 1947 بين البلدين. وكأن شعوب المنطقة محكوم عليها عدم العيش بسلام، فقدرها مواجهة تهديدات الحروب والأزمات، وعدم التفرغ لمشاريع التنمية والاستقرار! بعد سياسة فرق تسد، الآن (سياسة البترودولار) إعادة تدوير عوائد الطاقة!
نزاع كشمير يعد واحدًا من أعقد الصراعات في العالم المعاصر، ولا يزال يُشكل تهديدًا للاستقرار الإقليمي. الذي يتفق عليه المؤرخون هو أن جذور هذا النزاع تكمن في السياسات الاستعمارية البريطانية، وبالأخص استراتيجية «فرق تسد» وعملية التقسيم المتسرعة. ولا يمكن في هذا المقال تقصي التركة الضخمة للاستعمار، ولكن نستعرض كيف ساهمت هذه السياسات في خلق نزاع كشمير وغيره من الصراعات في العالم الإسلامي.
سياسة «فرق تسد» وهي المنتج البريطاني ذو العلامة سيئة السمعة، وضعت بذور الانقسام الأولى. عندما بسطت الإمبراطورية البريطانية نفوذها على شبه القارة الهندية في القرن الثامن عشر، واجهت تحديًا في إدارة مجتمع متنوع دينيًا وثقافيًا. لضمان استمرار هيمنتها، اعتمدت هذه السياسة المدمرة لأجل تعزيز الانقسامات بين الهندوس والمسلمين والجماعات الأخرى لمنع تشكل جبهة موحدة ضد الاستعمار.
تمثلت هذه السياسة في إجراءات مثل إدخال نظام الانتخابات المنفصلة في قوانين الحكومة الهندية لعامي 1909 و1919، حيث أُتيح لكل طائفة التصويت في دوائر انتخابية مستقلة. هذا النظام، وإن بدا إداريًا، عمّق الشعور بالانفصال بين الطوائف.
تشير المراجع التاريخية لتلك الحقبة، مثل كتاب A Concise History of Modern India لباربرا وتوماس ميتكالف، إلى أن البريطانيين استغلوا هذه الانقسامات لإضعاف الحركات الوطنية.
على سبيل المثال، دعموا ظهور رابطة مسلمي الهند، التي طالبت لاحقًا بدولة مستقلة للمسلمين، مما زاد من حدة التوترات مع الكونغرس الوطني الهندي. هذه السياسات زرعت بذور التقسيم الذي أدى إلى ولادة الهند وباكستان، وخلّفت نزاعات حدودية، أبرزها في كشمير.
وشرارة النزاع في كشمير تعود لتقسيم الهند عام 1947، فبعد قرون من الحكم الاستعماري، قررت بريطانيا الانسحاب من الهند تحت ضغوط اقتصادية وسياسية بعد الحرب العالمية الثانية. لكن عملية التقسيم التي أعقبت الانسحاب كانت متسرعة وغير مدروسة، حيث تم تكليف لجنة برئاسة السير سيريل رادكليف، لرسم الحدود بين الهند وباكستان في غضون أسابيع، رغم افتقارها إلى معرفة عميقة بالتعقيدات المحلية. هكذا تم التعامل مع قضيه مصيرية وجودية!
كانت كشمير، وهي إمارة ذات أغلبية مسلمة يحكمها أمير هندوسي (هاري سينغ)، واحدة من أكثر المناطق حساسية. وفقًا لقواعد التقسيم، كان على الإمارات اختيار الانضمام إلى إحدى الدولتين بناءً على الموقع الجغرافي أو التركيبة السكانية، لكن تردد الأمير في اتخاذ قرار خلق فراغًا سياسيًا. في أكتوبر 1947، دخلت قوات قبلية مدعومة من باكستان إلى كشمير، مما دفع الأمير إلى طلب المساعدة من الهند، التي اشترطت انضمام كشمير إليها. وافق الأمير، فأصبحت كشمير جزءًا من الهند، لكن باكستان رفضت هذا القرار، معتبرة أن المنطقة يجب أن تكون تابعة لها بسبب أغلبيتها المسلمة.
أدى هذا الخلاف إلى اندلاع أول حرب هندية - باكستانية (1947 - 1948)، وتدخلت الأمم المتحدة لفرض وقف إطلاق النار، مما أدى إلى تقسيم كشمير إلى منطقتين: واحدة تحت سيطرة الهند، والأخرى تحت إدارة باكستان. يؤكد المؤرخ إيان تالبوت في كتابه The Partition of India أن سوء إدارة لجنة رادكليف وسياسات التقسيم البريطانية كانت السبب الرئيسي في هذا النزاع.
السياسات الاستعمارية البريطانية، والتي وثقتها الدراسات الأكاديمية، كانت عاملًا رئيسيًا في نزاع كشمير. تشير عائشة جلال في كتابها The Sole Spokesman إلى أن البريطانيين عززوا الانقسام بين رابطة مسلمي الهند والكونغرس الوطني، مما جعل التقسيم أكثر تعقيدًا.
ومع ذلك، هناك وجهات نظر نقدية، مثل تلك التي يقدمها جون كي، تشير إلى أن البريطانيين لم يتعمدوا خلق نزاعات دائمة، بل كانوا يسعون لانسحاب سريع تحت ضغوط ما بعد الحرب العالمية. لكن، حتى لو لم تكن النتائج مقصودة، فإن تأثير هذه السياسات لا يمكن إنكاره. انظر ماذا فعلت أمريكا في أفغانستان، انسحاب سريع ثم حصار اقتصادي دمر شعباً كاملاً غارقاً في اقتصاد الأفيون!
في ظل المشاكل المستمرة، أصبح الكتاب المتميز A Peace to End All Peace والذي ترجم تحت عنوان (سلام ما بعده سلام)، ضروري الرجوع إليه لفهم الوضع الحالي ولمعرفة الآثار الارتدادية السلبية التي ما زالت تعاني منها المنطقة. يوضح ديفيد فرومكين في كتابه المرجعي كيف خدمت هذه السياسات المصالح الإمبريالية على حساب الاستقرار الإقليمي. هذه الأمثلة تُظهر نمطًا متكررًا: حدود اصطناعية وتجاهل للتعقيدات المحلية أديا إلى صراعات طويلة الأمد.
التركة الاستعمارية لم تقتصر على كشمير، بل امتدت إلى مناطق أخرى في العالم الإسلامي. في الشرق الأوسط، أدت اتفاقية سايكس- بيكو (1916) إلى تقسيم الأراضي العثمانية بين بريطانيا وفرنسا بطريقة تجاهلت التنوع الإثني والديني، مما أدى إلى نزاعات مثل الصراع العربي- الإسرائيلي ومشكلات الحدود في العراق وسوريا. في السودان، عززت بريطانيا الانقسام بين الشمال والجنوب، مما أدى إلى حرب أهلية طويلة وانفصال جنوب السودان في 2011م.
وهكذا، يظل نزاع كشمير تحديًا كبيرًا، خاصة مع تصاعد التوترات بين الهند وباكستان، وهما دولتان تمتلكان أسلحة نووية. يؤكد المحللون أن فهم الجذور الاستعمارية لهذا النزاع ضروري لإيجاد حلول. من منظور إسلامي وعربي، يُنظر إلى كشمير كقضية تتعلق بحق تقرير المصير، وهو مبدأ تدعمه العديد من الدول العربية، بما في ذلك المملكة العربية السعودية.
لذا تبقى دبلوماسية الأزمات ضرورة لاستمرار الحوار الإقليمي. السعودية ما زالت مرشحة لتشجيع حوار شامل يضم الهند وباكستان وسكان كشمير، برعاية دولية. مع الدفع بالتعاون الاقتصادي وتعزيز المشاريع الإقليمية لتخفيف التوترات وبناء الثقة. والأهم ضرورة تبني التوعية التاريخية لتعزيز فهم التركة الاستعمارية لتجنب تكرار الاخطاء. والدبلوماسية التي سوف تتصدى للمشاكل سوف تواجه بإرث سلبي كبير مثل نزاع كشمير، الشاهد الحي على الآثار طويلة الأمد للسياسات الاستعمارية البريطانية.
سياسة فرق تسد وعملية التقسيم المتسرعة خلقتا انقسامات طائفية وحروبًا حدودية لا تزال تؤثر على المنطقة. فمن فلسطين إلى سوريا والسودان واليمن، تتكرر القصة نفسها: حدود اصطناعية وصراعات مستمرة. إن فهم هذه التركة ليس مجرد تمرين بحثي أكاديمي، بل خطوة دبلوماسية وسياسية ضرورية لبناء مستقبل أكثر استقرارًا وعادلًا، والدبلوماسية السعودية قادرة على التحرك لمصلحة الشعوب.