د. محمد بن أحمد غروي
في زمن يسعى فيه العالم لإحياء القيم الإنسانية المشتركة، يبرز شهر العطاء كمحطة رمزية لتعزيز روح الكرم والتكافل بين الأمم، ويُعيد إلى الواجهة تساؤلات حول موقع العطاء في الثقافات المختلفة، ودوره في تحقيق التماسك المجتمعي، وكخبير سعودي في شؤون جنوب شرق آسيا، وجدت تشابهًا مدهشًا بين القيم التي تُشكل العمق الثقافي للمجتمعات العربية من جهة، والمجتمعات الآسيوية في الأرخبيل من جهة أخرى، لا سيما فيما يتعلق بالعطاء والبذل التطوعي.
في العالم العربي، يتجذر العطاء في التقاليد الدينية والاجتماعية على حد سواء. فالإسلام، كما جاء في قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (آل عمران:92)، وهو يحث على الإنفاق في سبيل الله، لا سيما في الزكاة والصدقات والإحسان للفقراء.
وقد أظهرت دراسات، مثل المسح الذي أُجري في دول مجلس التعاون الخليجي عام 2017، أن تسعة من كل عشرة أفراد تبرعوا بأموالهم أو وقتهم في السنة السابقة، مما يعكس تجذر ثقافة العطاء في السلوك المجتمعي العربي، وفي المملكة العربية السعودية، تجاوزت التبرعات عبر منصة «إحسان» الرقمية 8.5 مليار ريال، من خلال أكثر من 167 مليون عملية تبرع، مما يؤكد تحول هذه الثقافة إلى منظومة مؤسسية تدعم الاستدامة المجتمعية.
في المقابل، تتصدر دول جنوب شرق آسيا، وعلى رأسها إندونيسيا، مؤشرات العطاء العالمي عامًا بعد عام، ففي تقرير مؤسسة المساعدات الخيرية (CAF) لعام 2024، حافظت إندونيسيا على موقعها كأكثر الدول سخاءً للعام السابع تواليًا، تلتها سنغافورة في المركز الثالث، وتايلاند في المرتبة الرابعة عشرة، ثم ميانمار وماليزيا، وهذا الترتيب ليس صدفة، بل نتيجة مباشرة لثقافة عميقة تعزز قيم التكافل والتطوع والعمل المجتمعي.
أحد أبرز المفاهيم التي تُفسر سلوك العطاء في إندونيسيا هو مبدأ «جوتونج رويونج»، والذي يعني «العمل المشترك» أو «المساعدة المتبادلة»، حيث وُلد هذا المبدأ في الثقافة الجاوية، ثم تحول إلى عنصر أساسي في الهوية الإندونيسية، ولا يُمارَس «جوتونج رويونج» فقط في مناسبات دينية أو اجتماعية، بل هو جزء من الحياة اليومية، حيث يتشارك الناس مسؤولياتهم في القرية، أو في بناء منزل، أو حتى في الاستجابة للكوارث، والأجمل في هذا المفهوم، تجاوزه الانتماء الديني أو الطبقي، وهو ما يعزز فكرة أن الجميع شركاء في رفع أعباء الحياة، ويُجسد صورة عملية للتكافل تتجاوز المفهوم الخيري التقليدي.
في كل من ماليزيا وإندونيسيا، تأخذ الزكاة بُعدًا مؤسسيًا قويًا. ففي ماليزيا مثلاً، مثّلت الزكاة أكثر من 20 % من الإنفاق الاجتماعي الحكومي عام 2013، ما عدا القطاع الصحي، كما أن مؤسسات الزكاة في هذه الدول تُدار بحوكمة عالية، وتُوجه لمجالات مثل التعليم والرعاية الصحية والتمكين الاقتصادي، وَيُشَكِّلُ هذا نموذجًا يُحتذى به في العالم الإسلامي في كيفية دمج فريضة الزكاة في منظومة الحماية الاجتماعية.
رغم طابع سنغافورة المدني والاقتصادي، إلا أنها لم تغفل عن دعم ثقافة العطاء، وقد أظهرت دراسة للمركز الوطني للعمل الخيري أن نسبة التطوع ارتفعت بشكل ظاهر بعد الجائحة، خصوصًا بين الشباب، وتُعد المبادرات الحكومية، كالإعفاء الضريبي السخي على التبرعات، وتمكين موظفي الشركات من التطوع في أوقات العمل، محفزات فعالة لترسيخ العمل الخيري في النسيج المجتمعي.
ما يجمع بين العالم العربي ودول جنوب شرق آسيا ليس فقط الممارسة الخيرية، بل الفلسفة العميقة التي تستند إلى الدين، والروابط الاجتماعية، والهوية الثقافية، فكما يُعد «التكافل» أحد أعمدة المجتمع العربي، كذلك يُعد «جوتونج رويونج» أحد مفاتيح فهم الشخصية الإندونيسية، وسببًا في تصدرها مؤشرات العطاء، ما يعني، أن تقاطع هذه القيم يدعونا إلى التفكر في كيفية التعاون بين المؤسسات العربية والآسيوية لتبادل التجارب، وتطوير أدوات رقمية وشرعية لتنظيم العطاء، وتوحيد الجهود لخدمة الإنسانية.