منال الحصيني
في كل مرة يظهر اختراع جديد يغيّر طريقة تواصلنا، ترتفع الأصوات معلنة نهاية عهد الصحافة. قيل ذلك مع ظهور الراديو، ثم التلفاز، ثم الإنترنت، والآن مع الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، ما زالت الصحافة موجودة، تنبض بالحياة، تطرح الأسئلة، وتلاحق الحقيقة. فما السر؟ ولماذا نقول اليوم بثقة الصحافة لن تحتضر؟
الصحافة ليست الورق ولا الحبر، بل هي جوهر أعمق من الوسيلة: إنها سعي مستمر وراء الحقيقة، وكفاح دائم ضد التعتيم والتضليل. هذا الدور لم يتغيّر، حتى إن تغيّرت أدواته. فانتقال الصحافة إلى الفضاء الرقمي ليس إعلان وفاة، بل شهادة ميلاد جديدة.
فهل يمكن أن تموت الحاجة إلى الحقيقة؟ وهل سينتهي دور من ينقلها فقط لأن الورق قد انحسر؟
التحول الرقمي غيّر شكل الصحافة، لكنه لم يلغها. على العكس، فتح أمامها آفاقًا غير مسبوقة. من الصحافة الاستقصائية الرقمية، إلى البث المباشر، إلى التغطيات التفاعلية، أصبحت أدوات الصحافي أكثر تنوعًا وتأثيرًا. لم تعد الكلمة محصورة في زاوية الجريدة، بل باتت تصل العالم في لحظة، بالصوت والصورة والتحليل العميق.
التحول إلى المنصات الرقمية، والتطور في أساليب السرد والتفاعل، كلها مكّنت الصحافة من الوصول إلى جمهور أوسع، في وقت أقصر، وبأشكال أكثر تأثيرًا. إنها لا تزال تراقب السلطة، تفضح الفساد، وتدافع عن قيم العدالة والحرية. هذه الوظيفة الأخلاقية لا يمكن أن تنقرض، لأن الحاجة إليها تتجدد في كل زمن، ومع كل أزمة.
بل إن التحديات التي تواجهها الصحافة اليوم - من الأخبار الزائفة إلى التضليل الإعلامي المدفوع - تجعل دورها أكثر حيوية من أي وقت مضى. فالعصر الذي تنتشر فيه الأكاذيب بسرعة الضوء، هو نفسه العصر الذي تصبح فيه الصحافة الصادقة خط الدفاع الأول عن وعي الإنسان.
التاريخ يثبت أن الصحافة لم تنهزم أبدًا. في أحلك اللحظات، وفي أكثر المجتمعات قمعًا، وُجد من يكتب، من يوثّق، من يفضح، ومن يدفع الثمن. هذه ليست مهنة عابرة، بل رسالة حيّة، لا تموت إلا إذا ماتت مجتمعاتها.
إقفالاً لما قيل:
الصحافة لن تحتضر، لأنها ليست ترفًا، بل ضرورة. طالما هناك ظلم يحتاج إلى من يفضحه، وحقائق تنتظر من يكشفها، وجماهير تبحث عمن ينير وعيها، فإن الصحافة ستبقى. قد يتغير شكلها، لكن رسالتها خالدة... لأن الحقيقة لا تموت.