د.عبدالعزيز عبدالله الأسمري
لم تكن زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المملكة العربية السعودية مجرد محطة بروتوكولية ضمن جولة خارجية، بل جاءت محمّلة بدلالات سياسية واقتصادية تتجاوز لحظة اللقاء، وتعكس تحولات عميقة في مسار العلاقة بين الرياض وواشنطن حيث بدت زيارته أقرب إلى رسائل استراتيجية متبادلة بين دولتين تتقاطع مصالحهما على أكثر من مستوى، في ظل عالم مضطرب يعاد فيه رسم موازين النفوذ وتحولات القوى التقليدية.
الاستقبال الفخم الذي حظي به ترامب، من المراسم الرسمية الدقيقة إلى المرافقة الجوية بطائرات F-15، لم يكن استعراضًا بروتوكوليًا، بل رسالة رمزية تعبّر عن مكانة التحالف المتجدد، وعن رغبة سعودية في تأطير هذه العلاقة ضمن رؤية أكثر نضجًا تتسق مع التحولات الداخلية التي تقودها المملكة في إطار رؤيتها الطموحة 2030. أما على مستوى النتائج العملية، فقد تجلّت بوضوح في حزمة الاتفاقيات الاستثمارية والاقتصادية الكبرى التي أعلن عنها، وعلى رأسها استثمارات سعودية تفوق 600 مليار دولار في قطاعات حيوية داخل الاقتصاد الأمريكي، تشمل الذكاء الاصطناعي، الطاقة، الصناعات المتقدمة، وسلاسل الإمداد.
هذا التحرك لا يعكس مجرد ضخ أموال، بل يعبّر عن تحوّل في أدوات النفوذ السعودي من الاعتماد على الاستيراد، إلى التمركز داخل منظومات الإنتاج وصنع القرار الاقتصادي العالمي. ويؤكد ذلك توجه المملكة نحو شراكات نوعية مع كبرى الشركات الأمريكية في وادي السيليكون وقطاع الصناعات العسكرية والتقنية، ما يضعها في قلب الابتكار العالمي لا على هامشه. كما يعكس هذا التوجه إدراكًا سعوديًا عميقًا بأن بناء النفوذ المستدام يمر عبر أدوات الاقتصاد والتقنية، لا عبر المواقف العابرة، وهو ما يظهر في دقة اختيار القطاعات المستهدفة وعدم الاكتفاء بالمجالات التقليدية التي ارتبطت بالعلاقات سابقًا.
أما على الصعيد الأمني، فقد كانت صفقة الدفاع البالغة 142 مليار دولار مؤشرًا على مستوى الثقة المتبادلة في إعادة هندسة الأمن الإقليمي، لكن مع تغيّر واضح في موقع المملكة التي لا تطلب الحماية، بل تطالب بالشراكة في التصنيع والتخطيط الدفاعي المشترك، بما يعزز استقلال قرارها السيادي ويخدم مصالحها الاستراتيجية في محيط شديد التقلبات.
الدلالة الأبرز في خطاب ترامب العلني كانت إعلانه رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، موضحًا أن القرار جاء استجابة مباشرة لطلب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. هذا الإعلان شكّل تحولًا لافتًا في الموقف الأمريكي، ورسالة بأن السعودية باتت شريكًا فاعلًا لا يكتفي بالتنسيق، بل يساهم في صياغة التوجهات السياسية الكبرى في المنطقة، ويعيد التموضع الأمريكي ضمن توازن إقليمي ترسمه الرياض بثقة وهدوء، في لحظة دقيقة من تاريخ المنطقة.
وما بين الاستثمارات والقرارات السيادية والرمزية السياسية، يتضح أن هذه الزيارة لم تكن حدثًا عابرًا، بل فصلًا محوريًا في تشكّل معادلة جديدة، تؤكد أن الرياض لا تنتظر الأحداث، بل تصنعها، وتفرض إيقاعها بثقة في زمن التغيير.