أورنيلا سكر
في مشهد استثنائي تجاوز الأبعاد البروتوكولية التقليدية، جاء استقبال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في قصر اليمامة ليؤكد أن السياسة لا تُمارس فقط بالكلمات، بل تُصاغ كذلك عبر الرموز. والمملكة العربية السعودية، وهي تستقبل رئيسًا أمريكيًا للمرة الثانية خلال ولايته، في أحد أبرز مواقعها السيادية، لا تسجل لحظة تاريخية وحسب، بل ترسم ملامح مرحلة جديدة من التحالفات الاستراتيجية في ظل تحولات إقليمية ودولية متسارعة.
ولطالما كان قصر اليمامة في الرياض منصة رمزية تستقبل القادة والزعماء، ويعكس بذلك ثقل المملكة السياسي والدبلوماسي. فقد شهد هذا القصر محطات مفصلية في مسار العلاقات السعودية- الأمريكية، تجسدت باستقباله لرؤساء أمريكيين سابقين كفرانكلين روزفلت في لقائه التاريخي مع الملك عبد العزيز، وباراك أوباما في سياق المباحثات حول الاتفاق النووي الإيراني، وجورج بوش في إطار الحرب على الإرهاب.
وجاء استقبال ترامب في ظل ظروف إقليمية استثنائية، أبرزها تداعيات حرب غزة 2024، والتوترات الجيوسياسية المتصاعدة في البحر الأحمر، ما يعكس رغبة المملكة في ترسيخ مكانتها بوصفها بوابة الاستقرار الإقليمي ومنصة للتحالفات المستقبلية.
قصر اليمامة، الذي شهد الإعلان عن «رؤية السعودية 2030» وانطلاق التحالف العربي في اليمن، يؤكد مجددًا موقعه كمركز لصناعة القرار الاستراتيجي السعودي.
في ولايته الأولى، انسحب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، ما لقي ترحيبًا حذرًا من بعض دول الخليج، وأطلق «صفقة القرن» التي ركزت بشكل كبير على التحالفات الأمنية والصفقات العسكرية، بما تجاوز قيمته 110 مليارات دولار.
أما في ولايته الثانية، فقد تغيّر المشهد الإقليمي بشكل جذري. تصاعد نفوذ الصين وروسيا، وتسعى دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، إلى موازنة علاقاتها، ولاسيما في مجالات الاستثمار والطاقة والذكاء الاصطناعي. كما أعادت الحرب بين الهند وباكستان، وتزايد الإنفاق العسكري، رسم أولويات الأمن الإقليمي.
في هذا السياق، تُطرح تساؤلات جوهرية: هل تنظر السعودية إلى ترامب اليوم كرجل المرحلة؟ أم كضرورة استراتيجية؟
تحمل زيارة ترامب إلى الرياض عدة رسائل استراتيجية في اتجاهات متعددة. أولًا، للعالم بأن المملكة تظل لاعبًا رئيسيًا في مشهد التحولات العالمية، وقوة وازنة في الملفات الدولية الحساسة. ثانيًا، لواشنطن، بأن التحالف التاريخي ما زال قائمًا، رغم التوجه نحو تنويع الشراكات. وثالثًا، إلى بكين وموسكو، بأن الولايات المتحدة لا تزال حليفًا موثوقًا في المنطقة.
وتُرسل الزيارة رسالة واضحة للداخل الأمريكي أيضًا: بأن ترامب قادر على تحقيق إنجازات خارجية تضاف إلى رصيده السياسي، خاصة في ما يتعلق بإدارته لأزمات البحر الأحمر، وضرباته الاستباقية ضد الحوثيين، وتعاطيه مع تطورات الملف الإيراني، في ظل التوترات المتصاعدة بين الهند وباكستان، والتي تنذر بسباق تسلح نووي. وقد نجحت المملكة، من خلال أدواتها الدبلوماسية والأمنية، في الحد من تفاقم هذا الصراع، ومنع تحوله إلى مواجهة شاملة.
من المهم التأكيد أن التحولات الجارية تحمل أبعادًا عميقة، وتؤكد على الدور القيادي المتنامي للمملكة في إدارة وحل النزاعات الدولية، من أفغانستان إلى النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي حتى الحرب الاوكرانية. وقد سعت السعودية إلى الدفع نحو تسوية عادلة تضمن حقوق الفلسطينيين، مع التأكيد على رمزية موقعها الديني والسياسي، ووعيها العميق بأهمية القدس بالنسبة للمسلمين حول العالم.
وفي ظل مشهد دولي معقد ومتغير، يبرز قصر اليمامة ليس فقط كمكان للاستقبال الرسمي، بل كرمز لصياغة تحولات كبرى في السياسة الإقليمية والدولية. واستقبال ترامب فيه لا يحمل فقط أبعادًا بروتوكولية، بل هو جزء من سردية استراتيجية أكبر، تكتبها الرياض بحكمة واقتدار، على ضوء توازنات دقيقة وتحولات لا تعرف التوقف.