أ.د. محمد خير محمود البقاعي
لقد حاولت أن أجمع قائمة المصادر والمراجع التي سلكت مسلك ما أثبته التقرير الذي نترجمه عن شخصية كانت تمر مروراً عابراً في الحديث عن الحملة على الدولة السعودية الأولى، وأقصد الضابط الفرنسي جان باتيست فيسيير الذي كان طليعة التحديث الذي بدأه محمد علي للجيش المصري، واتفقت المصادر كلها على الحضور الغربي في الإعداد والتدريب والخطط والانضباط العسكري الذي كان مفقوداً، ولم يكن باستطاعة جيش مثل جيش والي بغداد أوطوسون باشا أن يهدم تحصينات السعوديين وعقيدتهم وتشبثهم بأرضهم وشعبهم، والتفاف الشعب كله على اختلاف قبائله ومناطقه تحت راية التوحيد.
لقد كتب الأستاذ يوسف بن عبد الرحمن الذكير في صحيفة الجزيرة العدد 10605، بتاريخ الخميس 24 رجب 1422هج/11 أكتوبر 2001م، مقالة موثقة بعنوان: «احتلال الدرعية وحِراب الحملة الفرنسية». وقد رأيته يلامس الفكرة ويوثقها في المصادر العربية حتى عند مؤرِّخي الدولة السعودية من السعوديين أنفسهم.
يقول في مطلع بحثه:
مورداً مقولات الغربيين في الموضوع: «يختلف المؤرِّخون فيما أبدته «الدرعية» من بسالة وصلابة، طوال مدة حصارها وإن تباينت تقديراتهم لتلك المدة ما بين خمسة أشهر وبضعة أيام، حسبما كتب الريحاني إلى ستة أشهر وأيام كما ذهب عبد الله بن خميس.
إلا أنهم يختلفون في تقدير أسباب نجاح حملة إبراهيم باشا في احتلال الدرعية، وإنهاء الدولة السعودية الأولى، فيما فشل من سبقه، ففريق منهم لجأ إلى أكاديمية التحليل للتفسير والتعليل، وفريق آخر يعزوه إلى نقص في التدبير، فيما ثالث يبرر ويعذر!
المحلِّلون الغربيون فسروا ذلك النجاح نتيجة لارتكاب أخطاء تكتيكية من الجانب الخاسر، فالإنجليزي «بريدجز» يقول: (يبدو لي أن هزيمة أصدقائي الفرس في حربهم مع الروس، وهزيمة النجديين في حربهم للترك، ناشئة عن نفس السبب، وهو أنهم أرادوا الوقوف بمشاة غير مدربين، وفرسان غير نظاميين أمام نيران المدفعية..)، فيما ذهب القائد الفرنسي الجنرال «فيغان»: (إلى إنه كان يجب الانسحاب ثم الهجوم كلما سنحت الفرصة هجوماً خاطفاً، حتى إذا جاءت الظروف الملائمة يتم توجيه ضربة قاصمة واستعادة البلدان المحتلة)، أما المؤرِّخ التشيكي (موزل) فيذكر أن أحد الأخطاء يكمن في أن العرب لم يستغلوا مزيتهم الكبرى وهي سرعة التحرك، فكان يجب عليهم أن يفاجئوا العدو بهجمات تشن عليه خارج المدن ثم يفروا بعد إيقاع الخسائر في صفوفه، ولن يقوى على ملاحقتهم لأن النجدي أسرع عدواً، وأخف ثقلاً، وأكثر تحمّلاً لمشاق الصحراء، وأعرف بها من عدو غريب».
ثم يعقب بمقولات السعوديين ممن ألَّفوا عن الدولة السعودية الأولى مثل (ابن بشر، وابن خميس، وابن سند وغيرهم). وقد تطرق إلى تاريخ المدافع واستخداماتها في المعارك السابقة ضد الدولة السعودية، وفشل المهاجمين ممن كانوا يملكونها في هزيمة السعوديين.
يقول: «(ابن سند) فيما نقله عنه العجلاني قوله: (لما تحارب ابن سعود مع إبراهيم باشا وغُلِب ابن سعود، فما غلبه إبراهيم باشا من قلة عسكر أو من عدم شجاعة عساكره، أو من احتياج إلى مال، وإنما غلبه إبراهيم باشا بالمدافع والآلات الحربية والنيران التي لا قبل له بها هو وجميع العرب، وهذا أمر آخر غير العساكر وغير الشجاعة، يحتاج إلى معارف وعلوم وصناعات وهندسة). وفي الجملة الأخيرة، إشارة قلما تطرق لها المؤرِّخون في تحليل وتفسير، سبب حاسم، وتفسيره كان له أبعد الأثر في احتلال الدرعية.. سبب ما كان ممكنا لإبراهيم باشا حيازته، لولا الحملة الفرنسية وما خلفته بعد رحيلها من مصر!
* * *
سلاح المدفعية، الذي عزا له معظم المؤرِّخين والمحلِّلين العسكريين، الدور الحاسم في تلك المعارك، لم يكن غريباً على أهل نجد. فقد استخدموها في حروبهم، حينما نقلوها على ظهور الجمال، بل وحتى إنهم حاولوا صناعتها، مثلما ذكر الريحاني في وصفه لأول حصار تعرضت له الدرعية، على يد «عريعر بن دجين» عام (1178ه)، فكتب يقول:
(كان عريعر صاحب مكر وحيلة، بل كان مخترعاً.. اخترع آلة جديدة للحرب سميت «الزحافة» وهي صندوق من خشب يسير محمولاً على دراريج، يجلس فيه العشرة إلى العشرين رجلا، وهم في أمن من رصاص العدو.. وما أشبه زحافة عريعر بدبابة اليوم ثم حاول عريعر أن يصيب مدفعاً كبيرا يدمر به الدرعية، فأمر بجمع الحديد والنحاس.. وشبت النيران، ونفخت المنافخ، وذابت في المراجل المعادن، ولكنها في النهاية صدت الطالب وعصت القالب، قال مؤرِّخ ذلك الزمان «كلما أفرغها في القالب أبت»!.. كما ذكرت المدافع بأنواعها في حملات الغزو السابقة على بلدان نجد والدولة السعودية، إلا أنها فشلت في جميع تلك الغزوات في تحقيق أدنى انتصار فملاحم صمود كل من حصن الهفوف بقيادة سليمان بن عفيصان، وحصن (صاهود) في المبرز بقيادة سليمان بن ماجد، أمام المدافع الثقيلة المنقولة بحراً في حملة «علي الكيخيا» التركية على الأحساء، ملاحم مذكورة ومشهورة في جميع كتب التاريخ».
لقد ورد في التقرير حديث عن المدافع وخطط استخدامها، كان جيش إبراهيم يملكها، ولكنها كانت حتى معركة الرس تستخدم استخداماً لا خطط له، وعندما قرر إبراهيم الاستعانة بمشورة فيسيير بدأت خططه تظهر فاعلية ذلك السلاح.
ويبدو أن بحث جبريل غيمار يعد المصدر الأول الذي نقلت عنه الكتب التي ألّفت عن الدولة السعودية الأولى.
وينقل الأستاذ الذكير عن المصادر قولها:
«فيما ذكر العديد من المؤرخين ومنهم ابن بشر أن إبراهيم باشا في جميع معاركه، كان يخرج بصحبة نخبة من قادته عند كل موقع يزمع مهاجمته، فيستطلع المكان ويقيس المسافات، وعلى رأس أولئك القادة ضابط فرنسي، اسمه (فيسيير) كان قد اشترك في حروب نابليون، واتخذه إبراهيم باشا مستشاراً عسكرياً له.
فشتان ما بين مدافع قذائفها، إما تمر ولا تضر أو تدفن في التراب، وما بين مدافع يختار لها أفضل المواقع وتحسب لها المسافات وما ذلك إلا بوجود رجال مؤهلين فما فائدة القوس إن لم تعط لباريها، حسبما يقول المثل العربي الشهير».
كل هذا يشهد لما رأيناه وأردنا التدليل عليه بترجمة هذا البحث الغني بالمعلومات والأحداث. يتابع غيمار:
إن جان باتيست أصغر أولئك الذين يحملون اسم فيسير، وينطبق عليه الوصف الذي ذكره روسيل. ولكنَّ هناك دليلاً أكثر رسوخاً نميل إلى اعتماده؛ فوثيقة الأحوال المؤرَّخة بعام 1817م تذكر أنه من سكان إسباليون Espalion وواقع الحال أن فيسير ولد في هذه المدينة في 5 يونيو 1817م.
(حاشية 1، ص 163: رسالة من السيد محافظ إسباليون 3 أغسطس، 1923م=
Lettre de M. le Maire d›Espalion du 3 août 1923).
أما جان ألكسندر فايسيير الذي سنجده، هو أيضاً، يجوب أنحاء إفريقيا الشرقية كلها من عام 1845 إلى عام 1860م، ويكاد يسير على خطى فيسيير؛ ضابط الحملة على الوهابيين.
والحال: أننا لو تأملنا شخصية هذا الأخير فايسيير وقارناها بشخصية جان [164] باتيست «فيسيير» الذي كانت إقامته الرسمية في إسباليون Espalion وهذا لا يعني أنه أقام كل حياته فيها. لو تأملنا هذه المعطيات نفترض ونشعر أن هناك علاقة قربى بعيدة، محتملة، تفسر حالة الاضطراب في ذلك.
لقد كان يدعى في مصر، بغض النظر عن مسألة اسمه (أو لقبه)، جان باتيست، وهو رجل الحملة على الوهابيين، وكان يُنظر إليه في القاهرة على أنه من قدماء قادة الكتائب إبان مرحلة المئة يوم في فرنسا (وهي المدة بين عودة الإمبراطور الفرنسي نابليون الأول من المنفى في إلبا إلى باريس يوم 20 مارس 1815م، واستعادة الملك من لويس الثامن عشر في 8 يوليو 1815م).
أما ألكسندر فلم يكن يحمل إلا رتبة ملازم في ذلك التاريخ. وأجيب عن ذلك بالقول: إنه، فيسيير، تقدم في تلك الآونة إلى محمد علي بترشيح من «كزافييه» باسكال كوست (1787- 1879م) «Xavier» Pascal Coste
(مهندس معماري فرنسي، تعرف في عام 1817م بالجغرافي جومار الذي قدمه لنائب السلطان في مصر محمد علي، وقام بأعمال إنشائية كثيرة، واكتسب مكانة كبيرة في أعمال البناء لمحمد علي ورجال حكومته، ونال مكانة راسخة في العمارة).
ونذكر في هذا السياق عسكرياً فرنسياً آخر، نال الشهرة منذ أمد، وكان هو أيضاً يدّعي أنه ضابط كبير، لم ينل وسام جوقة الشرف فحسب، بل وسام التاج الحديدي (وهو وسام إيطالي رفيع)؛ إنه «جوزيف أنثيليم» سيف (1788- 1860م) «Joseph Anthelme» Sève.
الذي سيحمل اسم سليمان باشا (الفرنساوي). والحال أن هذا العسكري لم ينل أي وسام تقدير، ولا يحمل إلا رتبة ملازم في الاستطلاع (حصار).
إن هذا المثل بالغ الدلالة، وإن أجمل الكذب ما يأتي من بعيد.
ولما كنت قد أشرت عرضا إلى جان ألكسندر فايسيير Jean-Alexandre Vayssière
فإنني لا أستطيع مقاومة الرغبة في المسارعة إلى رسم مساره على وجه الاختصار. ففي عام 1845م يخبرنا الأباتي «ألكسندر لويس» بوجوا (1819- 1897م) Alexandre-Louis, abbé Pougeois كاتب السيرة البارع للأب «جوان ميشيل» فانسليب Père «Johann Michael» Vansleb
(رجل دين ولغوي ألماني (1635- 1735م)، كان يسافر كثيراً إلى مصر، وتبع الكاثوليكية، واتبع عقيدة الآباء الدومينيكان منذ عام 1666م).
(ذكر غيمار أن عنوان كتاب الأباتي بوجواس: تاريخ الحبشة، وذلك في الحاشية 1، ص 164، وذكر تاريخ نشر الكتاب، باريس، 1868م، مقدمة الكتاب ص 8 و13= préface P. 8 et 13.
والعنوان الكامل: «الحبشة، تاريخها الطبيعي والسياسي والديني منذ أقدم العصور حتى سقوط تيودوروس، نشر عام 1868م، لدى الناشر ج. فيرلاج، J. Verlag
L›Abyssinie. Son histoire naturelle politique et religieuse depuis les temps depuis les temps les plus anciens jusqu›a la chute de Théodoros (Couverture rigide) Pougeois Alexandre Loouis, Abbé Verlag: J. Pougeois, 1868).
كان جان ألكسندر هذا ملازما في سلاح الفرسان الخفيف. وقد تخلى، راضياً، عمَّا يستحقه لقاء سبع سنوات من الخدمة، وأربع عشرة حملة في الجزائر، بحثاً عن الثروة في مصر. والتحق على وجه السرعة، بفضل الدعم [165] الذي خصَّه به كلوت-بيه Clot-Bey وتسنَّم رتبة ضابط صف في وزارة الدفاع في القاهرة، وكانت هذه الوظيفة مورد رزقه إبان سنتين عندما تعرَّف على عالم الآثار السبئية توماس جوزيف أرنو
(1812- 1884م) -Thomas .Joseph Arnaud
(عالم آثار، وأول الأوروبيين وصولاً إلى مدينة سبأ). استقال فايسيير من عمله بعد تعرّفه على أرنو، وتبع صديقه الجديد إلى بلاد العرب. لقد حصلتُ على معلومات عن وقائع ومبادرات حياة كل من أرنو وفايسيير عبر منشورات متنوعة لألكسندر دوما الأب. إن الروائي الكبير نشر في واقع الأمر حلقات متسلسلة في صحيفة الأوردر L›Ordre تضمنت ملخصاً لمغامرات الرحاليْن بعنوان: البحر الأحمر، «يوميات رحالَيْن تتمة لكتاب «خمسة عشر يوماً في سيناء» نشر ألكسندر دوما ودوزات، تأليف أرنو وفايسيير، تاريخ النشرة الأصلية 1849م=
La Mer Rouge “journal de deux voyageurs، pour faire suite à «Quinze jours au Sinaï»par Alexandre Dumas et Dauzatz / [par Arnaud et Vayssière], Date de l›édition originale : 1849»
وهي تكملة تتمم السردية المعنونة: خمسة عشر يوماً في سيناء Quinze jours au Sinaï بقلم ألكسندر دوما وأدريان دوزات (1804- 1868م) Adrien Dauzat
(حاشية 1، ص 165: رسام، زار مصر في عام 1830م مع البارون تايلور).
(ودوزات، رسام ومستشرق، رافق في القاهرة ووادي النيل البارون تايلور منذ عام 1818م، في سيناء وفلسطين وسورية، ثم في يافا والقدس وأريحا وعكا وتدمر وبعلبك. وتضمنت هذه الرحلة مهمة رسمية في مصر، استمرّت من شهر مارس حتى سبتمبر 1830م للتفاوض بشأن الحصول على مسلتَيْ طيبة (الأقصر). لقد حصل من هذه الرحلة على حصاد وفير من الرسوم التي استخدمها في كتاب: خمسة عشر يوما في سيناء 1838م. Quinze jours au Sinaï (1838). وهي سردية صاغها ألكسندر دوما الأب، الذي لم يكن في الرحلة، وهو أحد أصدقاء دوزات المقربين). ولنا لقاء.