د. فهد بن عبدالله الخلف
يستعمل البرديّون في لهجتهم الفعل (أنطرتْ) بمعنى أمطرت فيقلبون الميم نونًا، وغالبًا ما يكون هذا الفعل مؤنّثًا بالتاء الساكنة، لأنّ فاعله في الغالب هو كلمة (السماء) المؤنّثة، والبرديّون لا يقلبون الميم نونًا إلّا في صيغة (أَفْعَلَ) الماضية، وصيغة (تِفْعِل) المضارعة، ولا يقلبون في كلمة (مطر) الاسم مثلًا، ولستُ أعلمُ تفسيرًا لقلب الميم نونًا في صيغتي: أفعل وتفعل من المادّة المعجميّة (م/ط/ر)، والغالب أنّ الإبدال بين حروف الكلمات له أسبابه اللغويّة كتأثير بعض الأصوات اللغويّة ببعضها ممّا يفضي إلى قلب حروف بعض الكلمات؛ لتحقيق إحدى ظاهرتين صوتيّتين هما: ظاهرة المماثلة، أو ظاهرة المخالفة (1)
وليست هذه اللفظة من مادّة (ن/ط/ر) فإنّها لا تدلّ على المطر في معجمات اللغة العربيّة (2)، وليس لإبدال الميم نونًا نظير في اللغة الفصيحة -فيما أعلم- وإنّما ورد إبدال النون ميمًا في كلمتين هما: الأولى: (بنان) فقد وردت أيضًا بالميم (بنام) قال رؤبة:
يا هال ذات المنطق التمتام ... وكفّك المخضّب البنام.
والثانية: يقال في طانه طامه بإبدال النون ميمًا من الطينة أي: الجِبلّة، والطبيعة قال الشاعر:
ألا تلك نفس طِينَ منها حياؤها.
ولم يسمع لـ(طام) تصرّف (3)، وليس هناك مسوّغٌ صوتيّ لقلب الميم نونًا، فهذان الحرفان: الميم، والنون مختلفان في مخرجيهما اختلافًا يسيرًا، فمخرج الميم «بأن يمرّ الهواء بالحنجرة أوّلًا فيتذبذب الوتران الصوتيان فإذا وصل في مجراه إلى الفم هبط أقصى الحنك فسدّ مجرى الفم فيتّخذ الهواء مجراه في التجويف الأنفي محدثًا في مروره نوعًا من الحفيف لا يكاد يسمع، وفي أثناء تسرّب الهواء من التجويف الأنفي تنطبق الشفتان تمام الإنطباق» (4)، ومخرج النون « في النطق به يندفع الهواء من الرئتين محرّكًا الوترين الصوتيّين ثمّ يتّخذ مجراه في الحلق أولًا حتّى إذا وصل إلى أقصى الحلق هبط أقصى الحنك الأعلى فيسدّ بهبوطه فتحة الفم، ويتسرّب الهواء من التجويف الأنفي محدثًا في مروره نوعًا من الحفيف لا يكاد يسمع، فهي كالميم تمامًا غير أنّه يفرق بينهما أنّ طرف اللسان مع النون يلتقي بأصول الثنايا العليا» (5).
وحرفا الميم، والنون متّفقان في صفاتهما الصوتيّة أيضًا، فكلاهما حرفان مجهوران، وكلاهما متوسطان بين الشدّة، والرخاوة، وكلاهما حرفا انفتاح، وكلاهما حرفا انخفاض أو استفال، وكلاهما حرفا ذلاقة (6). إذن لا يوجد ما يوجب قلب الميم نونًا في الفعل (أنطرت/تِنْطِر) من الناحية الصوتيّة، فليس هناك ما يدعو إلى المماثلة، ولا المخالفة؛ لذا يمكن أن يُحمَل على القلب الاعتباطيّ الذي ليس له علة، وهو ما يسمّى بالإبدال الشاذّ، وهو ليس بضروريّ في التصريف مثل: إبدال اللام من نون أصيلان في قول النابغة:
وقفتُ فيها أصيلالاً أسائلها
وإبدال الذال من الدال في قراءة الأعمش: {فشرّذ بهم من خلفهم} (7)
وقد نصّ ابن منظور على أنّ البنام لغة في البنان، واستشهد في قول عمر بن أبي ربيعة:
فقالت وعضّت بالبنام فضحتني (8).
فهل نحمل على ذلك أنّ الفعل (أَنْطَرَت/ تِنْطِر) لهجة في الفعل (أمطرت)؟ هذا أمر ممكن، وله شاهد في لهجة بريدة في هذا الفعل. وقد نلمس أيضًا من نصّ الرضيّ (ولم يسمع لـ(طام) تصرّف) أنّ لهذا الفعل صيغة واحدة للكلمة التي حصل فيها الإبدال، وهي صيغة الفعل الماضي (طام) أيّ: إنّ هذا الفعل جامد، وحصل إبدال الميم نونًا في الفعل (أنطرت/ تنطر) فقط في صيغتي الماضي، والمضارع المسندتين إلى الفاعل المؤنّث، وهذا يعني أنّ ظاهرة الإبدال قد تكون جامدة أو تتصرّف تصرّفًا ناقصًا.
وقد يحتجّ بعضهم بلفظ (الناطرون)، وهو اسم موضع في الشام انقلبت ميمه نونًا، لكنّ الفيروزآباديّ ردّ هذا الإبدال بقوله: وغَلِطَ الجوهريُّ في قوله: ناطِرُون موضع بالشامِ، وإنما صوابه ماطِرُون بالميم (9)، وقد ذكره ياقوت الحمويّ في باب الميم والألف وما يليهما، وقال عنه: «الماطرون بكسر الطاء من شروط هذا الاسم أن يلزم الواو وتعرب نونه، وهو عجميّ، ومخرجه في العربيّة أن يكون جمع ماطر من المطر من قولهم: يوم ماطر، وسحاب ماطر، ورجل ماطر أي: ساكب» (10)
نخلص ممّا سبق إلى ما يأتي:
الأوّل: أنّ إبدال الميم نونًا في الفعلين (أنطرت/ تِنْطِر) في لهجة بريدة إبدالٌ اعتباطيّ شاذّ لم يدعُ إليه داعٍ صوتيّ، فليس هناك مراعاة لقانوني: المماثلة أو المخالفة.
الثاني: ليس إبدال الميم نونًا شائعًا في العربيّة -بحسب اطّلاعي- لكن ورد العكس على قلّة، وهو إبدال النون ميمًا في الاسم (بنان/ بنام)، وفي الفعل (طان/ طام).
الثالث: ما نقله الجوهريّ من إبدال الميم نونًا في كلمة (ماطرون/ ناطرون) وهمٌ وقع فيه استدركه عليه الفيروزآباديّ في القاموس المحيط، وهو لفظ أعجميّ، وليس مشتقًّا من لفظ عربيّ.
الحواشي:
*نسبة هذا الاستعمال إلى لهجة بريدة لا يعني اقتصاره على هذه اللهجة، فقد يوجد هذا القلب في الفعل (أنطر/ تنطر) في لهجات أخرى لم يطلع عليها كاتب هذه السطور. والجدير بالذكر أنّ الفعلين: أنطر وتنطر بدأ يتخلّى عنهما طائفة من الجيل الجديد من شباب بريدة، وشاع بينهم نطق هذين الفعلين بالميم.
*جامعة الملك سعود
**__**__**__**__**__**
(1) انظر المغنيّ الجديد في علم الصرف، محمّد خير حلوانيّ، دار الشرق العربيّ، حلب، سوريا، د. ت، د. ط، ص102-ص104.
(2) انظر مثلًا تهذيب اللغة، محمّد بن أحمد الأزهريّ، تحقيق: محمّد عوض مرعب، دار إحياء التراث، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2001م، جـ13، ص217. انظر لسان العرب، محمّد بن مكرم ابن منظور، دار صادر، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1414هـ جـ5، ص215. ولم ترد مادّة (ن/ ط/ر) في معجمي: جمهرة اللغة لابن دريد، ومقاييس اللغة لابن فارس.
(3) انظر شرح شافية ابن الحاجب، رضيّ الدين الأسترباذيّ، تحقيق: محمّد نور الحسن ومحمّد الزفزاف ومحمّد محيي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، د. ط، 1982م، جـ3، ص216، ص217.
(4) الأصوات اللغويّة، إبراهيم أنيس، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، مصر، د. ط، د. ت، ص48.
(5) الأصوات اللغويّة، إبراهيم أنيس، ص58.
(6) انظر فقه اللغة، عليّ عبد الواحد وافي، دار نهضة مصر، القاهرة، مصر، الطبعة الثالثة، 2004م، ص129-ص131.
(7) انظر القواعد والتطبيقات في الإبدال والإعلال، عبد السميع شبانة، دار الظاهريّة، الكويت، الطبعة الأولى، 2019م، ص4.
(8) انظر لسان العرب، محمّد بن مكرم ابن منظور، جـ12، ص56.
(9) انظر القاموس المحيط، محمّد بن يعقوب الفيروزآباديّ، مؤسّسة الرسالة، بيروت، لبنان، الطبعة الثامنة، 2005م، ص484.
(10) كتاب معجم البلدان، ياقوت بن عبد الله الحمويّ، عني بتصحيحه: محمّد أمين الخانجيّ، مطبعة السعادة، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1906م، مج 7، ص266.