عبدالله العولقي
حديثنا اليوم عنْ أهم شاعر في تاريخ الأدب اليمني، عبدالله بن صالح بن عبدالله بن حسن الشحف البردوني أديب اليمن الكبير، ولد في عام 1929م بقرية البردّون من قبيلة بني حسن في ناحية الحدأ شرقي مدينة ذمار، وفي طفولته جاء موسم الجدري وهو من المواسم الدائمة التي لمْ تكنْ لتتأخرَ عن اليمن حينها وكأنه فصلٌ من فصول السّنة! فقدْ أخذ الجدريُّ ما استطاع أنْ يحمله من أجساد الكبار والصغار ليُلْقي بهم في المقابر أمواتاً، لكن ّ الطفلَ البردّوني نجى بأعجوبةٍ من موت ذلك العام، وأمّا الضيفُ الثقيل فلمْ يشأ أنْ يُغادر اليمن دون أنْ يترك بصمته وأحافيره على وجه ذلك الطفل الصغير، وليته اكتفى بذلكّ، بل انتزع منه جوهرتيه الجميلتين ليتركه ضريراً في مقتبل حياته وصباه!
يقول المثل الشهير: خلفَ كُلِّ رجل عظيمٍ امرأة، فمن هي هذه السيدة المهمّة التي كانت تقف وراء البردّوني؟ لا شكّ إنها والدته التي طالما اعتزّ بها في مجالسه، نخلة بنت أحمد عامر، هذه المرأة المُكافحة التي لمْ تستسلمْ أبداً لظروف الفقر الموجعة، فكانتْ كما يقول البردّوني نصف فلّاحة ونصف ربة بيت! تعملُ نهاراً في فلاحة الأرض لتُعيل أطفالها الأيتام، بلْ إنها بلغت درجة عظيمة من المكانة الاجتماعية عند قبيلتها عندما كانت تحْضر مجالس القبيلة للتشاور في شؤون الحروب والغزو مع القبائل المجاورة، وكانت تُعْطي مشورتها لشيوخ القبيلة وتُشارك أفرادها في التصويت تجاه حسم الأمور والقرارات النهائية! لكنّها في تعاملها التربوي مع ابنها الضرير كانت قاسية جداً عليه، لمْ تُردْ لطفلها الصغير أنْ يستسلم لعاهة العمى، كانتْ تريدُه أنْ يكون صلْباً قويّاً يتغلبُ على مصاعب الحياة، وألّا يتركْ نفسه تنتظر عطف الآخرين وشفقتهم عليه! هذه المعاملة القاسية ولّدت في نفس الفتى البردوني شغفاً في الطموح وأملاً في البحث عن الذات والصعود إلى القمة بأنْ يُصبحَ علماً مهماً في تاريخ اليمن، وهكذا كان! ففي عام 1982م كرّمته الأمم المتحدة تكريماً خاصاً عندما أصدرتْ عملةً فضيةً عليها صورته كمعوّق تجاوز العجز وتغلب عليه إلى عالم الخلود والإبداع!
لقد زرعت نخلة بنت عامر في طفلها الصغير ثقافة عدم الاستسلام، وربّت ابنها الأعمى على عدم الرضوخ لضغوط الحياة وأعبائها، وهكذا قرَّر الطفلُ الصغيرُ أنْ يتحدّى عاهة العمى، فسافر مغترباً إلى مدينة ذمار ليطلب العلم هناك، وبالفعل انضمّ الطالبُ الجديدُ إلى دار العلوم وشرع يتعلّم أصول العلوم الشرعية واللُّغوية، وهناك وبلا موعدٍ مع الإلهام بدأ لسانُه يُغرْزِمُ بالشعر والقصيد، لكنّ عاهة العمى التي لحقت به جعلته في تلك الفترة المبكرة من حياته حاقداً على الناس كارهاً للنخب الاجتماعية، متشائماً من الحياة تماماً مثل أستاذه القديم أبي العلاء المعرّي، فبدأ يهجو أعيان المجتمع والأثرياء، وينظم القصائد في شتمهم والتقليل من قدرهم!
هو الشرُّ ملءُ الأرض والشرُّ طبعُها
هو الشرُّ ملءُ الأمسِ واليومِ والغدِ
وهذا غبارُ الأرض آهاتُ خُيّبٍ
وهذا الحصى حبّاتُ دمعٍ مُجمّدِ
وفي يومٍ من الأيام شعر الفتى الكفيف بوخزات الظمأ في حلقه، فقرر الخروج من دار العلوم إلى ساقية الماء التي لا تبْعدُ كثيراً عن فصله الدراسي، ولكنْ يبدو أنّ الفتى الضرير تاه عن طريقه! ليتفاجأ بثلّةٍ من الأطفال الأشقياء يرمونه بالحجارة، ويهزأون من عاهة العمى التي لحقتْ به، حاول الفتى أنْ يصدّهم عنه ولكنْ دون جدوى! لقد ظلوا يلاحقونه والبائس الفقير يهرب منهم على غير هدىً! فتارةً يتعثر بحجارةٍ في طريقه وتارةٍ يصطدمُ بشجرة، وهؤلاء المشاغبون لا ينفكُّون من الضحك عليه والسخرية منه! ولمْ يحمهِ منهم إلا قبةَ سبيلٍ مهجورةٍ عند أطراف المدينة دخلها متعثراً دامي الروح والوجه والكف!
فأنا طفلٌ بدونِ صباً
واليأسُ مُرْضعتي ومحتضني
وعداوةُ الأنذال تُتْعِبُني
وتغْسلُ الأدرانَ بالدرنِ
وحول القبّة المهجورة حاصره الأطفال الأشقياء، وبدأوا يهدّدونه بالضرب إنْ خرج عليهم، وهنا بدتْ للفتى الصغير حيلةً طريفة، فبدأ يطلق أصواتاً مرعبة تنطقُ بأسماء العفاريت علّها تُلقي الرعبَ في نفوس الأشقياء! وبالفعل نجحت الخطة وتفرّقوا عنه:
ما خوفُهم مني؟ وما اقترَنتْ
بالحقد أسراري ولا عَلَني
خافوا لأنّ الشرّ مهنتهم
وأنا بلا شرٍ بلا مهنِ
أمّا البردوني الصغير فقد بقي بعض الوقت خائفاً منهم داخل القبة، وبعد أنْ تأكد من مغادرتهم خرج في هجير تلك السّاعة اللافحة بعذاباتها، اللاهبة بأحزانها، اتّجه في طريقه المجهول إلى أنْ ارتطم وجهه فجأةً في سور مزرعة، تحسّس السور بيديه الشاحبتين وبدأت حاسة الشم القوية عنده تُدركُ وفرة البصل والفجل في تلك المزرعة، وأمام أوجاع الجوع وآلام الإرهاق استجاب الفتى لنزواته! فتسلَّق السور ورمى بنفسه داخل المزرعة وكأنه يقفز في لجّةٍ من ظلامٍ أو هاويةِ بئر، وبلا وعيٍ بدأ يلتهمُ البصل والفجل بشراهةٍ شديدة، وبعد أنْ ملأ معدته شرع يملأ جيوبه، لكنّ يداً ضخمة عاجلته فجأة بضربة في رأسه، وألحقتها بأخرى في كتفه، ثم انهمر سيلٌ من الشتائم قبل أنْ يُمسك صاحب المزرعة بتلابيبه ويجرجره سحباً إلى زريبة البهائم! وهناك بقي الفتى مسجوناً، تأخذه الأفكار إلى أمه في القرية، هناك حيث يأكل من حقله متى شاء! وبدأ البردوني يتساءل مع نفسه، أكلُّ هذا الضرب سببه الجوع؟!
لماذا ليَ الجُوعُ والأكلُ لكْ؟
يُناشدني الجوعُ أنْ أسألكْ
وأغْرسُ حقْلي فتجْنيه أنت
وتسْكرُ من عرقي منجلك
وقبيل غروب الشمس تمّ إخلاء سبيله مطروداً إلى الشارع! حيث خرج الفتى ماشياً إلى المجهول، يرتطمُ بالمارّة هنا وهناك حتى تفضّل أحدُهم بقوده إلى المسجد لصلاة المغرب، وأثناء الوضوء حصلت له حادثة هي أسوأ مما حصل له في المزرعة! فبينما هو يتوضأ وسط بركة ماءٍ صغيرةٍ داخل المسجد وإذ بصفعاتٍ قويةٍ تنهالُ عليه من كلّ جانب، كان الضربُ مؤلماً وقاسياً للفتى الصغير، لكنّ الأقسى والأكثر إيلاماً أنّ هذا الكفيف لمْ يكنْ يعرفُ من أيِّ اتجاهٍ تأتيه اللطمة تلو اللطمة، ولسوءِ حظه فإنه لمْ يستطع أنْ يتقي ولو لطمةٍ واحدة!
لقد كان اللاطمُ أحد أعيان المدينة وأثريائها، وكان الفتى المغتربُ قد هجاه ببضعة أبيات قبل بضعة أيام:
عليه جبينٌ مثل فعلٍ مُضارعٍ
عليه قميصٌ كالهجاء الفرزدقي
ومِنْ حُبّه قالوا: تزوّج أمّه
أأدْعُوه منذ الآن: (أوديب) مَشْرقي
ولعلّ الرجلَ عندما رآه أمامه صدفةً في المسجد لمْ يتمالك نفسه! فانقضّ عليه كما ينقضُّ الأسدُ على الفريسة دون وازعٍ من شفقةٍ أو رحمة، وبعد أنْ انتهت الصلاة بدأ المصلون يوبّخون الثري على فعلته مع هذا الفتى الضرير، فأراد أنْ يكفِّر عن خطئه فأعطى البردوني خمسة ريالات فضية اعتذاراً منه على سلوكه معه!
فرح الفتى الصغير بالخمسة الريالات فرحاً كبيراً، ونسي بها آلامه وأوجاعه ودماءه التي سالت اليوم ثلاث مرات، لقد ظلّ البردّوني يذكرُ كثيراً بحبوحة العيش التي عاشها لأسابيع بكنزه الصغير، الريالات الخمسة!
لقد كان ذلك مجرّد يومٍ أو نصف يوم من أيام صبا البردوني وشبابه! لقد عانى الشاعر كثيراً في مقتبل حياته حتى وصل إلى ما وصل إليه، كان يرى أمه في كل يومٍ من أيّام حياته، وكان يريدُ أن يُثبت لها أنه نجح في مهمته وتغلّب على إعاقته، وأصبح شاعر اليمن الكبير الذي يُشار له بالبنان، وعندما ماتت أمُّه نخلة بكاها بكاءً مراً:
ترَكَتْني هاهُنا بين العذابِ
ومضتْ، يا طولَ حُزْني واكتئابي
تركتْني للشقا وحْدي هنا
واستراحتْ وحْدها بين الترابِ
لقدْ تعلّم البردُّوني في ذمار وأظهر نبوغاً في العلوم الشرعيّة واللغويّة، لينتقل بعدها إلى صنعاء حيث حصل على الإجازة العلمية من دار العلوم في العلوم الشرعية والتفوق اللغوي، وبعد ذلك تمّ تعيينه مدرساً في الدار لتبدأ فصول سيرة شعرية طويلة امتدتْ إلى نصفِ قرنٍ فيعتبرها النقاد العرب واحدةً منْ أهمِّ التجارب الأدبية في الشعر العربي الحديث.
تميّز البردّوني في شعره بالسُّخرية، فهو يسخرُ من كل شيء حتى من نفسه! هذه السُّخرية تحوّلت في تجربة البردوني إلى فلسفة إنسانية عميقة:
والمرءُ لا تُشقيه إلاّ نفسه
حاشا الحياة بأنّها تُشقيه
ما أجهل الإنسان يُضْني بعضه
بعضاً ويشكو كلّ ما يُضْنيه
ويظنّ أنّ عدوّه في غيره
وعدوّه يمسي ويُضْحي فيه
وهذه الفلسفة البردونية الساخرة تعكس رؤية الشاعر وقدرته على رصد تناقضات المجتمع، فتجده مثلاً في قصيدته القصيرة (لص في منزل شاعر) يسخر من غباء اللص الذي اقتحم داره يحاولُ سرقتها، ففي هذه القصيدة الضاحكة يُظهر البردوني براعته الشعرية في تصوير المشاهد الكوميدية، وإبداعه الفني في رسم الحبكة الروائية للقصة، فعلى الرغم من أنّ القصيدة قصيرة حوالي 15 بيتاً إلا أنَّ البردُّوني استعمل تقنية بديعة في تصوير مشاهد القصة وبإبداعية رائعة، حيث نجد القصيدة تتكون من أربعة مشاهد كوميدية ساخرة، حيث يبتدأ المشهد الأول بالسخرية من اللص وشكره على هذه الزيارة الظريفة:
شكراً دخلت بلا إثارة
وبلا طفورٍ أو غراره
لمّا أغرتَ خنقْتَ في
رِجْليكَ ضوضاءَ الإغارة
فيسخرُ من غباء اللص الذي لا يُجيد مهارات مهنته، ولا يعرف كيف يختار المنازل التي ينوي سرقتها:
كالطيفِ جئتَ بلا خُطىً
وبلا صدىً وبلا إشارة
أرأيتَ هذا البيت قِزْماً
لا يُكلّفُك المَهارة؟
فأتيته ترجو الغنائمَ
وهو أعْرى منْ مغارة
وفي المشهد الثاني تتحول السخرية إلى المكان، أو بيت الشاعر الذي وصفه بالفراغ كتعبير بلاغي رائع عن تصوير الفقر، وفي هذا المشهد تحدثَ المفاجأةُ أو الصدمة النفسية عند اللص فيرتفع مستوى الحدث الدراماتيكي ويصل المشهد إلى ذروته عندما يتفاجأ اللص بخيبته! هذه الصدمة يصفها البردوني من خلال ثلاث شخصيات جديدة يُقحمها الشاعرُ في النص، الفأرة والهرّة والشاعر (صاحب المنزل) في لوحةٍ شعريةٍ تُلقي انطباع الفقر بكل أبعاده في نفس المتلقي:
ماذا وجدتَ سوى الفراغ
وهرّةً تشْتمُّ فأرة
ولهاثُ صعلوكِ الحروفِ
يصوغُ من دمهِ العبارة
ليبتدأ المشهد الثالث بالسخرية من الشاعر -يقصد نفسه- في مأساته وفقره:
يُطْفي التوقّدَ باللظى
ينسى المرارة بالمرارة
لمْ يبقَ في كوبِ الأسى
شيء حساهُ إلى القرارة
ماذا؟ أتلقى عند صعلوك
البيوت غنى الإمارة
وفي المشهد الرابع الأخير، يعود الشاعر إلى نفس مشهد البداية بالسخرية من بطل القصة وهو اللص:
يا لصُّ عفواً إنْ رجعتَ
بدونِ ربحٍ أو خسارة
لمْ تلقَ إلا خيبةً
ونسيتَ صُنْدوقَ السجارة
شكراً، أتنوي أنْ
تُشرّفنا بتكرارِ الزيارة
وفي الختام.. لا يُذكرُ الشعرُ في اليمن إلا ويُذكرُ البردّوني معه، فهو كما يرى أدباء اليمن شاعر كل العصور في بلادهم، ويحسبُ بعضهم أنّ زمناً طويلاً سيمرّ قبل أنْ تعرف اليمن شاعراً آخر يمكن أنْ يرتقي هذه الذرى التي حلّق البردوني في أجوائها، وعندما طلب البردوني من الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح أنْ يكتب مقدمة ديوانه قال: هل تستطيعُ الساقية أنْ تقدم النهر؟ وهل يستطيع النهر أن يقدم البحر؟ ذلك ما يريده مني صديقي الشاعر الكبير الأستاذ عبدالله البردوني، وهي إرادة عزيزة على نفسي، حبيبة إلى قلبي، ولكنها كبيرة على قلمي، وثقيلة على ذهني! فتجربة البردوني الشعرية تمثِّل أهم رحلة أدبية في تاريخ الشعر اليمني قديمه وحديثه.