أ.د.أبو المعاطي الرمادي
شغلت عتبات النص الروائي حيزًا كبيرًا في المنجز النقدي العربي بداية من الربع الأخير من القرن العشرين؛ باعتبارها المولج الأهم بين الموالج التي يمكن من خلالها الدخول إلى عوالم النص الروائي، والنقاد محقون في الاهتمام بها؛ فكل ما هو خارج المتخيل الحكائي جزء من الحكاية، والتأويل الصحيح له يمهد طريق المتلقي داخل طبقات الحكي، ويساعده على الإمساك الصحيح بأطراف الفكرة قبل الدخول إلى عوالم النص، وعلى الوصول الصحيح إلى مغزاه.
من الوهلة الأولى يبدو العنوان (دموع الرمل) عنوانًا مراوغًا؛ فبنيته الاستعارية تجعل منه عنوانًا مناسبًا لقصيدة رومانسية أو لنص غارق في تهاويم الخيال، وتمنحه غموضًا يطرح على المتلقي ذي العقلية التأويلية مجموعة أسئلة من قبيل ما دموع الرمل التي يقصدها الروائي؟ هل الدموع رمز؟ وإذا كانت رمزًا فما العلاقة بينها وبين الرمل؟ هل العنوان عنوان لنص روائي رومانسي؟ وهل فضاؤه الصحراء؟ وهي أسئلة الإجابة عنها متعددة، ومهما كانت دقيقة فستكون احتمالية، ولا بد من الاعتماد على بقية العتبات لترجيح إحدى الإجابات قبل الولوج إلى عالم النص.
إن أول ما يجذب المتلقي بعد العنوان الغامض عناصر لوحة الوحدة الأمامية للغلاف، الرجم، وقرص الشمس البرتقالي وقت الغروب، وسواد المرأة الواقفة وسط الرجم، وهي عناصر إذا قرأناها من خلال العنوان والخلفية البنفسجية الطاغية على فضاء اللوحة فستتجه بالرواية ناحية الأعمال الرومانسية؛ فاللون البنفسجي كما يقول أحمد مختار عمر:» يرتبط بحدة الإدراك والحساسية النفسية، وبالمثالية، كما يوحي بالأسى والاستسلام»، وهي مشاعر شديدة الصلة بالأعمال الرومانسية. ولأن المؤشر التجنيسي مؤشر عام، (رواية) بلا وصف يحدد نوعها (رواية تاريخية/ رواية بوليسية/ رواية خيال علمي) فإن المتلقي لن يستطيع الحيد عن قناعته برومانسية الرواية التي من المحتمل أن يكون موضوعها عذاب امرأة، لكن كلمة الناشر على الوحدة الخلفية للغلاف «هناك في صحراء الله الواسعة، حيث يرتحل البدو فوق رمالها أشباحًا، تأخذهم الحياة إلى مصائر لا يعرفونها، وهناك تنتقل حكايات كثيرة ترويها شفاه إلى شفاه، تموت بعضها في صمت الرجال وتحيا بعضها في صفحات الكتب، وهناك يَدفن الرمل جثث مَن ماتوا، وهناك يمتد العمر بآخرين حتى يغادروا صحراءهم إلى المدن البعيدة مخلفين وراءهم رمالًا تشهد على دموعها التي فاضت وذاكرة لن تعود»، إضافة إلى اللوحة المصاحبة وهي (لراع فوق جمل يقود مجموعة من الجمال بدا عليها الضعف، ويغلفها والراعي السواد) في فضاء لا نهائي، واللون البنفسجي الممتد من وحدة الغلاف الأمامية، تبتعد بالقارئ عن كونها رواية عذاب امرأة، وتأخذه إلى منطقة مضمونية أكثر اتساعًا، هي معاناة البدو من خشونة الصحراء. وهو مضمون بعيد عن الرومانسية التي ألقت بظلالها على المتلقي من مكونات الوحدة الأمامية للغلاف، وبذلك يكون العنوان (دموع الرمل) بما فيه من انزياح استعاري ورمزية عنوانًا مناسبًا للمعاناة، ويكون اللون البنفسجي أيقونًا يشير إلى استسلام سكان الصحراء لمعاناتهم، وتكون (معاناة البدو) مولجًا أوليًا للدخول إلى عالم الرواية.
لم تشر العتبات الخارجية للرواية إلى كونها رواية تاريخية، ولم تبح بمغزاها الحقيقي. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يؤخذ هذا على مصممها وعلى المؤلف؟ ويرتبط بهذا السؤال سؤال آخر، هل كانت خلفية إحدى اللوحتين، الأمامية أو الخلفية، في حاجة إلى رموز تأخذ المتلقي إلى عالمها التاريخي الفارض نفسه على عملية التلقي، كونها الرواية الفائزة بجائزة القلم الذهبي لمسار الرواية التاريخية؟
والإجابة عن السؤالين (بلا)؛ فوجود الرموز أو عدم وجودها في العتبات الخارجية لا ينفي كون الرواية رواية تاريخية لأمرين: أولهما أن العتبات الخارجية وحدها ليست المسؤولة عن تمهيد طريق التلقي، والثاني تغير مفهوم الرواية التاريخية، فلم تعد الرواية التي تعرض التاريخ في قالب حكائي كما في روايات جورجي زيدان، ونجيب محفوظ، بل أصبح «موضوع التخييل (فيها) هو التاريخ نفسه» كما يقول عبدالفتاح الحجمري، إضافة إلى أن العنوان، ولوحة الغلاف، والتجنيس جزء من العتبات، وليس العتبات كلها، فقد يوجد في بقية العتبات مع يجعل حياديتها الدلالية حيادية فنية.
صدر الغيثي روايته بتنويه أعُدُّه عتبة مهمة لا يمكن التغافل عنها في أثناء تلقي الرواية؛ فهو لا يأتي من المبدع عبثًا، بل مرشدًا مقصودًا، الهدف من ورائه توجيه المتلقي نحو زاوية ما من زوايا عمله، يراها الزاوية الأهم. يقول فيه: «باستثناء الإطار التاريخي العام والأحداث التاريخية الكبرى المعروفة، فإن أيًا من الشخصيات الرئيسية والأحداث التفصيلية في هذه الرواية، إنما هي من نسج الخيال لا غير؛ لذا جرى التنويه بذلك».
وهو بذلك يريد التأكيد على أن روايته تسير في مسارين: مسار تاريخي ومسار تخييلي، ويدعو المتلقي إلى الاهتمام بالجانب التاريخي فيها (الإطار التاريخي العام / الأحداث التاريخية الكبرى)، المتداخل مع المتخيل السردي (إنما هي من نسج الخيال).
لكن العتبة _التي لا يمكن تغافلها _ لا تؤكد تاريخية الرواية، ويجب التعامل معها بحذر، والنظر إليها من خلال بقية العتبات؛ فالكثير من الروايات الواقعية وحتى الفانتازية تحتوي على أحداث تاريخية كبرى، وأطر تاريخية عامة، ويتعامل النقد معها على أنها متخيل سردي من مستلزماته حضور الحدث التاريخي، وثلاثية نجيب محفوظ خير دليل على ذلك.
تلا التنويه تصدير آخر جمع بين ثلاثة أقول: الأول لألبير كامو من روايته (الإنسان المتمرد) التي تناقش العلاقة بين الحرية والتمرد «كي يوجد المرء مرة واحدة في العالم لا بد له أن يفقد وجوده للأبد». وقول كامو يشير إلى أن البقاء الدائم على صفحات التاريخ قد يحتاج إلى التضحية بالحياة. وهو تصدير لا يبتعد عن تاريخية الرواية التي فرضها السارد على المتلقي في التنويه؛ ففيه إشارة إلى احتمالية أن يكون مضمون الرواية عن بطل أو أبطال خلدوا أسماءهم على صفحات التاريخ بتضحيات جسام.
والثاني لأبي العلاء المعري:
«كلٌّ تسير به الحياةُ وما له
علمٌ على أي المنازل يقدم
والمرء يسخط ثم يرضى بالذي
يُقضى ويوجده الزمان ويٌعدِم»
وهو يناقض قول كامو السابق؛ ففي البيتين استسلام من الإنسان لتصاريف القدر. لكنه استسلام يفتح بابًا آخر للتاريخي، هو باب الضعف والاستكانة التي كانت سببًا في انهيار دول وحضارات، واحتمال أن يدور محتوى الرواية عن مثل هذه الانهيارات.
لكن التصديرين اللذين جعلا لعتبة التنويه قيمة إرشادية تساعد المتلقي على الولوج لعالم الرواية من نافذة التاريخ يصطدمان بالتصدير الثالث، وهو مقطع من قصيدة (المقعَد) للشاعر اللبناني وديع سعادة. يقول فيه: «ابحث في التراب حبة حبة، قد تجد نفسك، أو على الأقل قطعة منك. قد تجد قطعة من أجدادك، ومن أحفادك الذين لم يولدوا بعد. ابحث في التراب قد ترى أصدقاء، وقد تتعرف إلى ناس لا تعرفهم. انبش التراب الذي في قلبك، ستجد كثيرين مدفونين هناك، ينتظرون أن يصل معولك إليهم كي يحيوا». الذي تكمن فيه دعوة إلى البحث عن البقاء، والحرص على استمرارية الحياة. وهو عتبة تأخذ المتلقي إلى عالم روائي غير العالمين السابقين، عالم فلسفي ميتافيزيقي، يجيب عن أسئلة وجودية تشغل بال الإنسان المعاصر.
إن العتبة الأخيرة التي من المفترض أن ترجح كفة المتخيل السردي العام على المتخيل التاريخي الخاص، أو العكس، عتبة العناوين الداخلية. احتوت الرواية على ستة عناوين هي (ذاكرة من غبار/ في البدء كان الألم/ الحياة قرار لا رجعة فيه/ المخاض وجه قاس لا بد منه/للحياة طريق آخر/ الحياة ليست إلا انكساراتها)، وهي عناوين من خلال مكونتها اللفظية (غبار _ الألم _لا رجعة_ مخاض _ قاس _ انكساراتها)، تأخذ المتلقي ناحية متخيل سردي واقعي يعالج مآسي البدو في الصحراء.
ويعني ذلك أن على المتلقي الولوج إلى عالم الرواية بلا أية احتمالات قاطعة عن مضمونها، وعليه تسليم نفسه للسارد العليم القادر وحده على تحديد مضمون الرواية، ومساحة التاريخي والتخييلي فيها. بعد أن همشت العتبات التاريخي ورسخت للمتخيل السردي فلم تظهر تاريخية الرواية في وحدتي الغلاف الأمامية والخلفية، ونفى التصدير الثالث ما أكده التنويه والقولان المنسوبان لألبير كامو وأبي العلاء المعري.
وهنا تطرح عدة أسئلة نفسها على الناقد والمتلقي، مثل: ألا يمكن أن يكون التهميش مقصودًا من الروائي؟ ألا يمكن أن يكون عدم البوح بتاريخية الرواية قيمة جمالية وليس مأخذًا عليها؟ ألا يمكن عد عدم بوح العتبات بتاريخية الرواية آلية من آليات التشويق الروائي؟ وهي أسئلة مشروعة من المتلقي والناقد والإجابة عنها جميعًا من الممكن أن تكون بنعم، خاصة إذا كان الروائي شاعرًا، وله مضمومات شعرية منشورة، وأستاذًا جامعيًا متخصصًا في الأدب والنقد، فلا يمكن غض الطرف عن ذلك عند التعامل نقديًا مع عتبات (دموع الرمل)؛ فروح الشاعر ظاهرة في العنوان ولوحتي الغلاف، وعقلية الأكاديمي الناقد ظاهرة في التنويه والتصدير والعناوين الداخلية، حتى إنني أستطيع أن أقول: إن تهميش التاريخي في العتبات تهميش فني، الغرض منه أمران: الأول المراوغة في تقديم خيوط الحكاية الاحتمالية للمتلقي. وهي لعبة فنية تؤجج نار التشويق وتدفع المتلقي دفعًا إلى النص في محاولة للخلاص من حالة اللايقين التي لا يعرف مخرجًا منها إلا السارد العليم، والثاني فرض سطوة التخييلي على التاريخي، لتخليص الرواية من أي بعد إرشادي تعليمي، وإذابة التاريخي في الخيالي والخيالي في التاريخي.
لكنها إجابة لا يمكن اعتمادها إلا بعد البحث عن مكانة التاريخي داخل النص وعلاقته بالمتخيل وعلاقة المتخيل به. وهي علاقة وطيدة يلمسها القارئ غير الاستهلاكي بداية من الصفحات الأولى للرواية؛ فقد جعل شتيوي الغيثي للتاريخي _بالمفهوم الواسع لكلمة تاريخ _ حضورًا كبيرًا بين طبقات المتخيل الحكائي، تمثّل في حضور الشخصيات التاريخية (الملك عبد العزيز، وابن الرشيد، وجماعة إخوان من أطاع الله)، والمعارك في أماكنها الحقيقية، وطبيعة الحياة في المملكة قبل وبعد التوحيد، والتحولات الاجتماعية التي أحدثها التوحيد. وهو حضور يجعل المؤشر الأجناسي للرواية (رواية تاريخية).
** **
- جامعة الملك سعود