د. غالب محمد طه
لعل من أكثر التصريحات اللافتة التي تستحق التوقف عندها ما قاله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب: «من المهم أن يعرف العالم أن هذا التحول العظيم لم يأتِ من تدخلات غربية أو من أشخاص يهبطون بطائرات فاخرة ليُلقوا عليكم محاضرات حول كيفية العيش وإدارة شؤونكم». لم تكن هذه الكلمات مجرد مجاملة بروتوكولية عابرة، بل اعتراف صريح بحجم الانتقال الذي تشهده المملكة العربية السعودية، وتحول يُعزز القناعة بأن ما يجري هو نتاج إرادة داخلية واعية، واستراتيجية تنموية يقودها الطموح والثقة.
هذه العبارة تكشف جوهر ما يجري في السعودية: تحول جذري لا يُدار من الخارج، بل ينبع من العبقرية العربية في سياقها السعودي، ويُعيد تشكيل هوية المنطقة برمتها. لقد تجاوزت المملكة النمط التقليدي للاقتصاد الريعي، ودخلت إلى عصر جديد تُعيد فيه رسم صورتها على الخارطة العالمية، ليس فقط كدولة نفطية، بل كمركز تنموي واقتصادي وتكنولوجي ملهم للعالم العربي.
قبل سنوات قليلة، كان يُنظر إلى الاقتصاد السعودي باعتباره معتمدًا على تصدير النفط. أما اليوم، فالمعادلة تغيّرت: السعودية تُعيد تعريف النموذج، حيث أصبحت الاستثمارات في التكنولوجيا، الطاقة النظيفة، والسياحة من ركائز رؤية طموحة تستهدف المستقبل. والمملكة اليوم مركز إشعاع اقتصادي يمتد أثره إلى المنطقة كلها.
حين أُعلنت «رؤية 2030» بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، شكّك البعض في إمكانية تحويلها إلى واقع. لكن السنوات الأخيرة أثبتت أن المملكة لا تطرح شعارات، بل تحلم وتصنع المستقبل. المشاريع العملاقة مثل «نيوم»، «القدية»، و»البحر الأحمر» تكشف عمق النهضة التي لم تقتصر على البنية التحتية، بل شملت تحوّلًا ثقافيًا ومفاهيميًا في تعريف المدينة والسياحة والحياة. ولعل من أجمل السرديات في المشهد السعودي المعاصر، أنها لم تنشغل فقط بتفاصيل البنية التحتية أو صعود الأرقام الاقتصادية، بل بتلك التحوّلات التي تسللت بهدوء إلى داخل الإنسان نفسه.
لقد تغيّر المزاج العام، وصار الحديث عن الفرص التي نخلقها لا تلك التي ننتظرها. فالشاب السعودي لم يعد مجرد متفرج يترقب الفرصة، بل أصبح صانعًا لها، مبادرًا، مبتكرًا، ومغامرًا. ولعل المرأة السعودية تكمل بقية القصة، فهي اليوم تعتبر شريكًا فاعلًا في الاقتصاد، والثقافة، والإعلام، حيث تبدّلت النظرة، وتسارع الإيقاع، وأصبح المستقبل مشروعًا شخصيًا للجميع، لا مجرد حلم وطني مشترك. هذا التحوّل لم يتوقف عند المواطن وحده، بل انسحب تأثيره على المقيم أيضًا، الذي بات يرى في هذا الوطن فضاءً مفتوحًا للحلم والعمل والاحتمالات.
ويبرز إلى السطح سؤال جوهري: هل اقتصر التحول السعودي على الجانب الاقتصادي؟
الإجابة تأتي واضحة وسريعة: بالطبع لا. فالمملكة لم تكتفِ بإعادة هيكلة اقتصادها، بل انطلقت إلى آفاق أوسع، تؤسس فيها لحضور عالمي في مجالات التقنية والابتكار.
يكفي أن نستشهد بتصريحات إيلون ماسك خلال زيارته الأخيرة للسعودية، حين أكد أن المملكة باتت مركزًا عالميًا للابتكار. فقد أعرب عن اهتمام شركته بإنشاء شبكة أنفاق ذكية في الرياض، كما رحّب باستخدام تقنية «ستارلينك» لتغطية الطيران والملاحة البحرية. وأشار إلى أن تقنيات «الروبوتاكسي» والأنفاق الذكية من شأنها أن تُحدث تحوّلًا نوعيًا في تخطيط المدن، وتجعل بنيتها التحتية أكثر كفاءة ومرونة.
لندرك بثقة بأن هذه التصريحات لم تكن مجرد إشادات، بل تعبير عن ثقة دولية متزايدة في التحول السعودي، الذي بات يُنظر إليه كقوة جديدة تقنيًا واقتصاديًا. كما أن هذا التحول اتخذ بعدًا سياسيًا وجيوستراتيجيًا، يُعزّز من مكانة المملكة في محيطها الإقليمي فالسعودية اليوم تلعب دورًا محوريًا في دعم السلام، وترسيخ الاستقرار في المنطقة، وتسهم في بناء اقتصاد عربي حديث ومتين. بل المتابع يدرك أنها لا تشيّد لنفسها فقط، بل تسعى لبناء فضاء تنموي مشترك، تتقاطع فيه المصالح، وتتآلف فيه الطموحات، وتتفق عليه الآمال. وهذا بالضبط ما يجعل من التجربة السعودية نموذجًا جديرًا بالتأمل والتقدير والاحترام، وجديرًا بالإلهام في سياقنا العربي الأوسع، بحيث لا يمكن قراءة التحول السعودي بمعزل عن التحديات التي تواجهها دول المنطقة. فبين اقتصادات منهكة، وشعوب تبحث عن الأمل، ومجتمعات تتوق إلى الاستقرار، تبدو السعودية اليوم كأنها تحمل مشعلًا مضيئًا في نفق طويل.
فالنجاح والتميّز ليس فقط مجرد قصة وطنية، بل رسالة تقدمها السعودية إلى محيطها: أن التقدم ليس حكرًا على أحد، وأن الإرادة إذا وُجدت، فالمعجزة تتحول إلى خطة، والخطة إلى واقع.
ودعني عزيزي القارئ أختم بهذا الحوار الطريف؛ حين قال ترامب مخاطبًا ولي العهد:
«محمد، أنت تنام ليلًا؟ متى تجد الوقت لإنجاز كل هذا؟»
فأجابه الأمير بابتسامة:
«أحاول...»
«أحاول» تواضع يفسر أن ما يحدث لا يمكن أن يُعزى إلا إلى توفيق الله ونوره المبين، كما يرى كثيرون ممن يشاهدون المسار التنموي السعودي بإعجاب ودهشة.
ويختم ترامب كلمته قائلاً:
«لقد حققتم معجزة حديثة... على الطريقة العربية».
وهذه ليست مجاملة، بل شهادة سياسية وتاريخية تؤكد أن التحول الحقيقي لا يُستورد ولا يُفرض، بل يُصنع بإرادة وطنية، وقيادة تؤمن بأن المستقبل يُصنع، لا يُنتظر.
لقد أثبتت المملكة أن الطموح لا يعرف سقفًا، وأن الإرادة حين تتكئ على الرؤية والعمل تصبح قادرة على تحويل الأحلام إلى واقع ملموس، لا يقتصر أثره على حدودها، بل يمتد صداه ليشعل شرارة الأمل في أرجاء العالم العربي.
فالتحول الذي تقوده السعودية اليوم لم يعد مجرد مشروع وطني، بل بات مصدر إلهام للأمة كلها، ودليلًا حيًّا على أن الابتكار والتنمية ليسا حكرًا على أحد، بل هما استحقاق لكل من يملك الإرادة ويملك الخطة.
ولعلّ ما يميز التجربة السعودية هو قدرتها على الجمع بين الجرأة في الطموح والاتزان في التنفيذ، ولهذا بدأت كثير من الدول العربية لا تكتفي بالإعجاب بما يتحقق، بل تنظر إليه كمسار يمكن أن يُحتذى، مع مراعاة خصوصياتها وظروفها، لأن الفكرة في جوهرها ليست أن تُقلد، بل أن تُستلهم.
هنيئًا للمملكة العربية السعودية، قيادة رشيدة وشعبًا، هذه المكانة التي تستحقها بجدارة، وهنيئًا للأمة العربية وهي تحتفي بما حققته المملكة من إنجازات على مختلف الأصعدة.