د. الجوهرة بنت فهد الزامل
في خضم التحولات الكبرى التي تشهدها المملكة العربية السعودية، لم تعد رؤية 2030 مجرد مشروع اقتصادي يهدف إلى تنويع مصادر الدخل، بل أصبحت مشروعًا اجتماعيًا حضاريًا يعيد صياغة العلاقة بين المواطن والدولة، ويصوغ هوية سعودية حديثة تنبض بالطموح، وتتجذر في الأصالة.
لقد وضعت الرؤية المجتمع في قلب مشروع النهضة، معتبرة الإنسان السعودي هو المحرّك الأول للتنمية. فالتمكين الذي تنشده الرؤية ليس فقط اقتصاديًا، بل معرفي، ثقافي، وإنساني.
من تمكين المرأة، إلى إطلاق طاقات الشباب، إلى استعادة الدور المحوري للثقافة، كل هذه التحولات تعكس إدراكًا عميقًا بأن النهضة تبدأ من الإنسان وتنتهي إليه.
وأحد أبرز تجليات الرؤية الاجتماعية يتمثل في تمكين المرأة السعودية، ليس كرمز للتغيير، بل كشريك حقيقي في البناء. لقد شهدنا خلال أعوام قليلة دخول المرأة ميادين جديدة كانت مغلقة لعقود: من السلك الدبلوماسي إلى مجالس الإدارات، من سوق العمل إلى منصات التأثير الثقافي والإعلامي. لم يكن ذلك مجرد فتح أبواب، بل إعادة تعريف للأدوار وبناء لثقة مجتمعية متبادلة.
وبموازاة ذلك، جاء تمكين الشباب كاستثمار طويل المدى في مستقبل الوطن. برامج الابتعاث، دعم الابتكار وريادة الأعمال، وتفعيل الطاقات الشبابية في المبادرات الوطنية، كلها تعبّر عن إيمان الدولة العميق بأن الشباب ليسوا مستقبل الوطن فقط، بل صُنّاع حاضره.
وشهدنا في السنوات الأخيرة تحولات ثقافية عميقة لم تعرفها المملكة من قبل، حيث لم يعد الترفيه ترفًا، بل بات ركيزة من ركائز الوعي المجتمعي الجديد. الانفتاح على الفنون، السينما، المسرح، والموسيقى، لم يكن فقط إعادة إدماج لمكونات حضارية مهمّشة، بل تأسيس لوعي جمعي منفتح، ناقد، وقادر على التعبير.
وهنا تتجلى عبقرية الرؤية في إدراك أن الثقافة ليست مجرد محتوى، بل أداة بناء للهوية وتشكيل للوعي الجمعي. لقد باتت الثقافة السعودية اليوم أكثر حضورًا، وتنوعًا، وتعبيرًا عن التناغم بين الحداثة والجذور.
كل هذه التحولات تصبّ في إعادة تشكيل الهوية السعودية. هوية لا تتنكر لماضيها، ولا تنغلق عليه؛ بل تستلهم منه ما يعينها على فهم الحاضر وصناعة المستقبل. هذه الهوية الحديثة تنبع من مجتمع يتغير بإرادته، ويعيد تشكيل قيمه ضمن منظومة متكاملة تحترم الخصوصية وتؤمن بالعالمية.
الرؤية هنا لا تفرض أنماطًا جاهزة، بل تتيح للمجتمع أن يكون شريكًا في إعادة تعريف ذاته، فيتقدّم لا ليتشبه بالآخر، بل ليُظهر ذاته الحقيقية بشكلها الأجمل والأصدق.
رؤية 2030 هي مشروع وطني بامتياز، لا يقتصر على أرقام النمو ومؤشرات الاقتصاد، بل يتغلغل في بنية المجتمع، ويعيد تشكيل الإنسان السعودي بوصفه هدف التنمية ووسيلتها. إن ما تشهده المملكة اليوم من تحولات اجتماعية وثقافية ليس عارضًا ولا مرحليًا، بل هو نواة لهوية جديدة تتخلق بثقة، وتنبض بطموح، وترى المستقبل امتدادًا طبيعيًا لإرادة وطن لا يعرف التراجع.