د. رانيا القرعاوي
لا شيء في إعداد وتنظيم المؤتمرات السياسية يحدث صدفة. وعندما قال الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إن التحول العظيم الذي شهدته المملكة لم يأتِ من تدخلات غربية، بل وُلد من مواطني هذه الأرض، كان يعكس إدراكًا عميقًا لتغير المعادلة في المنطقة. قال بوضوح: «العديد من المستشارين يخبروننا كيف نفعل الأشياء، لكنهم عاجزون عن الفعل»، مشيرًا إلى أن احتضان التراث هو مصدر القوة الحقيقية.
لقد نجحت السعودية في بناء دولة حديثة بالطريقة السعودية.
جاء حديثه بعد افتتاح ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- لمنتدى الاستثمار السعودي الأمريكي في الرياض الأسبوع الماضي، حيث أصرَّ على الحديث باللغة العربية أمام الوفد الأمريكي.
لم يكن ذلك تفضيلاً بروتوكوليًا فحسب، أو مجرد وفاء للغة، بل ممارسة واعية للسيادة الثقافية، تحمل رسالة واضحة: لسنا بحاجة إلى تغيير لغتنا ليفهمنا العالم، بل على العالم أن يصغي إلينا كما نحن.
يقول الباحث إرفينغ غوفمان إن الطريقة التي يُؤطَّر بها الحدث تحدد كيفية تلقيه وفهمه.
لقد شكّل المنتدى محطة رمزية أعادت رسم ملامح الحضور السعودي في الخطاب السياسي العالمي.
من أبرز لحظاته إعلان ترمب رفع العقوبات عن سوريا، وما تلاه من إشارة عفوية باليد من الأمير محمد بن سلمان، والتي انتشرت على نطاق واسع، لتُقرأ بوصفها لحظة رمزية عالية التعبير.
ووفقًا لنظرية «الإطار الإعلامي»، فإن الأثر لا يتكوّن فقط من الكلمات، بل من الطريقة التي نقول بها الكلام، ولغة الجسد، واختيار التوقيت.
ومن اللافت أن الاهتمام بالزيارة ظهر بشكل أوضح في الإعلام الغربي؛ فوفق إحصاءات Google، نُشر أكثر من 775 ألف خبر بالإنجليزية، مقابل 32,800 فقط بالعربية.
وهذا لا يعكس فقط قوة حضور السعودية في المشهد العالمي، بل يكشف عن فجوة في تعامل إعلامنا العربي مع لحظاتنا التاريخية. فقد فهم الإعلام الغربي مغزى الخطاب، بينما اكتفى الإعلام العربي بالنقل المجرد دون قراءة رموزه.
في زمن تتشابه فيه الخطابات السياسية، قد لا يهتم المشاهد العادي بمتابعتها. لكن عندما يُقدَّم الخطاب برمزية عاطفية ذكية، فإن الحدث يرسخ في ذاكرة التاريخ. ففي خطاب ولي العهد، وحركات يده، ونبرة صوته، واستخدامه للغة، كانت الرسالة التي التقطها الإعلام الغربي واضحة: السعودية لم تعد تترجم نفسها للغرب، بل باتت تفرض لغتها وسرديتها وثقافتها.
إنها لحظة يمكن مقارنتها بزيارات تاريخية مثل زيارة نيكسون إلى الصين عام 1972، التي كانت بوابة التحول في العلاقات الدولية خلال الحرب الباردة، أو زيارة أوباما إلى كوبا في 2016، التي طوت صفحة عداء استمر لعقود.
في كلتا الحالتين، لم يكن الحدث مجرد لقاء سياسي، بل إعادة تقديم للهوية الوطنية أمام العالم، من خلال إشارات رمزية محسوبة ولغة خطاب مختلفة.
لقد وجّه الأمير محمد بن سلمان خطابه ليس فقط للحضور في المنتدى، بل إلى الذاكرة البصرية العالمية، وهي ما تلتقطه وسائل الإعلام بشكل أعمق من النصوص. ولهذا، على القائمين على المشهد الإعلامي العربي أن يدركوا أن العالم لا يكتفي بسماع ما نقول، بل يهتم بكيف نقوله.
المطلوب هو تدريب العاملين في الإعلام على تأطير لحظات القوة لا مجرد نقلها، والعمل على إعادة صياغة هذه اللحظات بطرق متعددة - مرئية، تحليلية، وسردية - لضمان وصول رسائلنا إلى الداخل والخارج بالعمق الذي تستحقه.
ربما آن الأوان لإعلامنا العربي ألا يكتفي برصد الأحداث، بل أن يتقن فن تأطيرها كما يفعل الآخرون.