جانبي فروقة
منذ فجر التاريخ، كانت القوة ترتبط بالسلاح والجنود والفتوحات. لكن مع تطور المجتمعات وتعقد العلاقات الدولية، لم تعد القوة تُقاس فقط بعدد الدبابات والطائرات، بل بمدى قدرة الدول على التأثير والإقناع وتغيير سلوك الآخرين دون إطلاق رصاصة واحدة.
هكذا بدأ مفهوم القوة الذكية (Smart Power) يتشكَّل ويأخذ مكانه في قلب السياسات الدولية فلعقود طويلة كانت القوة الصلبة تتشكَّل من القوة العسكرية والاقتصادية وهي كانت أداة النفوذ الأساسية ومع نهاية الحرب الباردة لاحظ المفكر الأمريكي جوزيف ناي تحولاً هائلاً لدول تحقق أهدافها ليس بالضغط، بل بالإغراء وهنا ولدت فكرة القوة الناعمة (Soft Power) بالتأثير عبر الثقافة والإعلام والتعليم والدبلوماسية العامة وهناك صور وأمثلة كثيرة للقوة الناعمة فالولايات المتحدة الأمريكية صدرت للعالم الحلم الأمريكي عبر هوليوود والجامعات وفرنسا عبر اللغة والثقافة والفن واليابان من خلال الأنيميشن والتكنولوجيا ولكن في عالم اليوم، تغيَّرت معادلة التأثير، فلم تعد السياسات مرتبطة بمن يفرض آراءه بالقوة الصلبة، بل من يستطيع المزج بين النفوذ السياسي، والهيمنة الاقتصادية، والتفوق التكنولوجي، حتى إن الاعتماد على القوة الناعمة فقط لم يعد كافياً لحماية المصالح الحيوية وبدأ يظهر مفهوم جديد وهو القوة الذكية والتي تعتمد على الدمج بين القوة الصلبة والناعمة باستخدام التكنولوجيا وبطريقة مدروسة لتحقيق أهداف إستراتيجية بأقل تكلفة وأعلى تأثير وبالمعنى السياسي التطور إلى مصاف الدول التي تعرف متى تضغط ومتى تبتسم. والصين اليوم خير مثال على ذلك فعبر مبادرة « الحزام والطريق» تمارس القوة الذكية باستثمارات ضخمة (قوة ناعمة اقتصادية) مع تعزيز وجودها الإستراتيجي في الموانئ والممرات البحرية (قوة صلبة مستترة).
واليوم في ظل التطور التكنولوجي وصعود نجم الذكاء الاصطناعي (AI) لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تكنولوجية، بل أصبح سلاحاً جيوسياسياً وسيكون تأثيره على القوة الذكية عميقاً من خلال التأثير الإعلامي والدبلوماسية الذكية والحروب السيبرانية واقتصاد المعرفة فمن يسيطر على تقنيات الذكاء الاصطناعي سيقود اقتصادات المستقبل ففي عالم الغد قد تصبح خوارزمية ذكاء اصطناعي مدربة جيداً أقوى من أسطول عسكري كامل.
وهكذا يصنع القادة الجدد التاريخ عبر القوة الذكية، التي تجمع بين الإقناع والقوة، بين الاستثمار والتأثير وفي هذا السياق، برز الرئيس الأميركي دونالد ترامب مجددًا كلاعب بارع في استخدام القوة الذكية، بالتوازي مع نجاح السعودية في تطوير نموذجها الخاص لهذه القوة أيضاً واليوم رأينا تريليونات تتحرك تحت راية واحدة وهي راية ترامب للقوة الذكية، فالزيارة الأخيرة للرئيس ترامب للسعودية (كما أكد صموئيل ويربرغ المتحدث الإقليمي باسم الخارجية الأمريكية) لم تكن مجرد بروتوكول دبلوماسي، بل كانت استعراضاً للقوة الذكية الأمريكية، حيث رافقه وفد بقيمة سوقية تتجاوز 7.38 تريليون دولار يضم عمالقة التكنولوجيا والمال (انفيديا وأمازون وتيسلا واوبن اي اي واي بي ام وبلاك ستون وغيرها) وبلغت الصفقات المالية لزيارة ترامب للخليج وبناء الشراكات الإستراتيجية عن 600 مليار دولار مع السعودية مع طموح مشترك لتجاوز حاجز التريليون دولار ومع قطر 1.2 تريليون دولار ومع الإمارات العربية المتحدة 1.4 تريليون دولار.
وبالمقابل رأينا اليوم أن السعودية لم تعد مجرد مصدر للاستثمارات أو مستورد للتكنولوجيا، بل أصبحت شريكاً قوياً في صناعة التكنولوجيا وتطويرها وأطلقت مشاريع عملاقة في كل المجالات وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة والتي تشكِّل جزءاً من إستراتيجية سعودية ذكية لصناعة قوة إقليمية عصرية ذات دور عالمي بارز فاليوم في معادلة القوة الذكية يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً مهماً وتأكيداً لهذا التوجه أعلن صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان عن إطلاق شركة «هيومين» (HUMAIN)، المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة، للعمل والاستثمار عبر سلسلة قيمة الذكاء الاصطناعي، حيث وستقدم «هيومين» خدمات متكاملة تشمل مراكز بيانات الجيل القادم، البنية التحتية السحابية، ونماذج ذكاء اصطناعي عربية متقدمة، بهدف تطوير حلول محلية وإقليمية وعالمية وتسعى الشركة إلى تعزيز القدرات البشرية وفتح آفاق جديدة عبر الاقتصاد الرقمي، مع التركيز على دعم الابتكار المحلي وتطوير الملكية الفكرية.
وتتسق هذه المبادرة مع جهود صندوق الاستثمارات العامة لترسيخ مكانة السعودية كمركز عالمي تنافسي في الذكاء الاصطناعي، مستفيدًا من موقع المملكة الإستراتيجي وقاعدتها الشابة الصاعدة المتمرسة بالحلول التقنية.
وقد صنف مؤشر الذكاء الاصطناعي العالمي لعام 2024 السعودية في المرتبة الأولى عالميًا بإستراتيجيات الحكومة في هذا المجال وستكون «هيومين» لاعبًا محوريًا في القطاعات الإستراتيجية مثل الطاقة، الصحة، الصناعة، والخدمات المالية، مما يعزِّز طموحات المملكة في قيادة مستقبل البيانات والذكاء الاصطناعي عالميًا.
وكما أعلنت AWS وشركة HUMAIN عن استثمار ما يزيد عن 5 مليارات دولار لتسريع تبني الذكاء الاصطناعي في المملكة العربية السعودية وعلى مستوى العالم.
الاستثمار الجديد في شركات متخصصة في الذكاء الاصطناعي هو استثمار في الأفكار والخوارزميات وسيمكن السعودية من بناء أدوات تأثير إعلامي واقتصادي وسياسي قادرة على تغيير موازين القوى بهدوء وبدون دماء وستبتكر تكنولوجيا دفاعية متقدمة وسيعزِّز قدرة السعودية على تحليل المعلومات الضخمة وفهم توجهات الشعوب والأسواق.
العالم الجديد يصنعه الأذكياء والذكاء هو السلاح الجديد ومن يتحكم فيه يتحكم بالعالم وبناء المستقبل لن يكون بالصراعات، بل بالشراكات الإستراتيجية والتكنولوجية والاستثمار في الإنسان.
ويبدو في عالم الغد أن الحرب لن تبدأ بالدبابات، بل بالخوارزميات.
** **
- كاتب أمريكي