د. داليا عبدالله العمر
في مسيرة الحياة، غالبًا ما يقع الاختيار على المرأة التي تبدو «أسهل»، تلك التي تتسم باللين والقبول، وتحظى بتفضيل اجتماعي على حساب المرأة الأكثر وعيًا وعمقًا. يتم استبدال صاحبة الفكر المستنير والإدراك الواسع بمن يُتصوَّر أنها «أقل إرهاقًا»، بينما تُوصَم اللامعة فكريًا بأوصاف مثل «متعبة» أو «عنيدة». لكن الحقيقة المُرَّة هي أن الرجل الذي يبتعد عن هذا النوع من النساء لا يهرب منها في الواقع، بل يفرّ من مرآة تعكس جوهره، ومن فرصة فريدة للنمو والارتقاء.
إنها المرأة التي يُنذَر بها البعض، لا لعيوبها، بل لقوّتها الكامنة المستقلة بفكرها، العميقة في رؤيتها، الذكية في طرحها، الواثقة بذاتها، والمحبة بصدق ووعي. ينظر إليها مجتمعنا العربي أحيانًا بتحفظ أو شك، ويُساء فهم شخصيتها على أنها تهديد لسلطة الرجل، بدلًا من اعتبارها سندًا حقيقيًا وشريكًا استثنائيًا. بينما تُقدَّر هذه المرأة في ثقافات أخرى، ويُحتفى بحضورها وحكمتها ومساهماتها، تجدها في مجتمعاتنا غالبًا ما تُهمَّش وتُنتقَص قيمتها. والحقيقة أنها كنز لا يُقدَّر بثمن، للرجل الذي يفهم ويُجلّ.
والأدهى من ينتقد هذه المرأة ليسوا الغرباء فحسب، بل غالبًا ما يكون أقارب الزوج أو الخاطب هم الأكثر تحفزًا ضدها. إنها ببساطة تهدد سلطتهم التقليدية، وتربك حساباتهم القديمة، وتُخيفهم بوعيها الذي لا يُشترى. يرونها منافسًا غير متوقَّع، فيتهمونها بالغرور أو عدم «الطاعة»، بينما هي في جوهرها لا تتعالى، بل لا تنحني إلا لما يستحق.
في كثير من الأحيان، تُقصى هذه المرأة وتُعتبر خطرًا على الصورة النمطية أو على النفوذ داخل الأسرة.
وإذا أحبَّت، فإنها تحب بوعي عميق، وتمنح شريكها دعمًا راسخًا وولاءً نابعًا من عقل ناضج لا من فراغ عاطفي. لا تقف بجانبه بدافع الشفقة، بل إيمانًا بقدراته ورؤية مشتركة تجمعهما. لا تذوب في شخصيته، بل تحيا معه بتكامل، وتسنده في ضعفه، وتحفّزه عند التوقف، وتقوّيه عند الانهيار.
ثقافتها ليست وسيلة للتباهي، بل أداة لخلق حوار راقٍ ونقاش بنّاء. ليست مستمعة فقط، بل مفكرة تثري العلاقة وتعمّقها. تشاركه اتخاذ القرارات، وتوجهه بحكمة حين يضل الطريق. إنها مرآته عندما يبحث عن ذاته، وسنده الذي يتكئ عليه عند الصعاب.
قد تُريح المرأة الضعيفة الرجل في الظاهر، لكنها قد تتركه وحيدًا في لحظات العمق والحاجة الحقيقية ومعارك الحياة، التي لا تؤمن بالمجاملات عند بناء الأسرة وتربية الأبناء. أما المرأة المستقلة الواعية، فهي تبني معه بيتًا لا تهزّه تقلبات الزمن، وعلاقة لا تنكسر أمام التحديات. الرجل الذي يختار هذا النوع من النساء، يكسب شراكة لا تُقدَّر بثمن، رغم ما قد يعترض طريقهما من خلافات أو تباين في وجهات النظر. لكنه يجد معها نضجًا ودفئًا ووضوحًا، ويعيش علاقة تقوم على الاحترام المتبادل والشراكة الحقيقية، لا على التبعية والسيطرة.
لكن لا بد من التنويه أن هذه المرأة لا تُقدِّم كل ما لديها إلا إذا أحبّت، وكان هذا الحب قائمًا على الاحترام والعدل والتقدير. أما إن ظُلمت، أو قُلِّل من شأنها، أو لم يُحترم عقلها وكرامتها، فإنها تتحوّل إلى قنبلة موقوتة، لا ترضى بالهوان ولا تسكت عن الإهانة، تمامًا كما فعلت السيدة خديجة - رضي الله عنها - حين طلبت الطلاق من رجلين لم يكونا كفؤًا لها، لأنهما لم يُقدّرا قيمتها، فاختارت أن تكون امرأة حرة لا تُشترى ولا تُقهر.
وعندما تصبح أمًا، فإن أبناءها يحظون بكنز لا يُقدَّر بثمن. تغرس فيهم حب الاستطلاع، وتزرع في عقولهم بذور الحرية والتفكير النقدي والتمييز. تربيهم ليصبحوا أقوياء، واثقين بأنفسهم، قادة لا أتباعًا، أحرارًا لا منقادين.
وغير أن جيناتها تجذب أبناءها ليصبحوا متميزين مثلها وأكثر، فإن وعيها وأسلوبها في التربية يفتح لهم آفاقًا أرحب من مجرد التلقين والطاعة.
خديجة.. النموذج الأول للمرأة التي أحبّت واحتوت دون ضعف
يكفي أن نتأمل شخصية السيدة خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها -، أولى زوجات النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، لنرى كيف احتفى الإسلام منذ بداياته بهذا النوع النبيل من النساء. كانت خديجة امرأة ذات ثروة ونفوذ، ذكية في تجارتها، ومحبة بعمق وكرم نادرين.
وجدير بالذكر أن خديجة - رضي الله عنها - كانت مطلقة مرتين قبل زواجها بالنبي، لأنها لم تقبل أن تكون أقل شأنًا من رجال لم يكونوا أكفاء، رجال ذوي عيوب كبيرة لم يقدّروا إسهاماتها وحبها العميق وحنانها الفياض وعقلها الراجح وطموحها المتوقد.
وعندما جاءها النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتجفًا من أول لقاء مع الوحي، لم تُشفِق عليه شفقة ضعف، بل احتضنته بحكمة العقل وثبات العاطفة. وقالت له كلمات ما زالت من أروع ما قيل في لحظة إنسانية فارقة: «كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق».
لم تكن تابعة، بل كانت سندًا وعونًا. لم تذب في شخصيته، بل كانت نورًا بجانبه. هي المرأة التي آمنت به حين كذّبه الناس، وناصرته حين تخلّى عنه الجميع. وهذه هي صفات المرأة التي يُحذّر منها البعض اليوم: قوة الحب، وعمق الوعي، واستقلال الرأي.
بلقيس.. الحكيمة التي غلّبت العاطفة بالعقل
وفي القرآن الكريم، نجد مثالًا آخر في بلقيس، ملكة سبأ، التي واجهت دعوة النبي سليمان -عليه السلام- بعقل راجح ورؤية سياسية متزنة. لم تتصرف باندفاع أو تتمسك بالسلطة، بل قالت كلمتها الخالدة: (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)، (23) سورة النمل. ثم قالت: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ)، (32) سورة النمل.
فيها صورة المرأة القائدة التي تستشير وتفكر بعقلانية وتُقدّر المصلحة، وتتحرك برزانة واحترام للعقل الجماعي. لم تكن مرهوبة لأنها «امرأة»، بل كانت مهابة لحكمتها.
المرأة الواعية المستقلة ليست عبئًا على الرجل، بل أثمن مكاسبه إن أحبّته. هي استثمار في علاقة ناضجة، لا تستنزفه بل ترتقي به. هي التحدي الجميل الذي يكشف عن أجمل ما فيه، لا العقبة التي تعيقه. فاختر من تؤمن بك وتنهض بك، لا من ترتاح لها اليوم وتتركك في العتمة غدًا.
وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة.»