د. عبد الله القدهي
مقدمة:
يأمرنا الخالق جل وعلا بالتفكر في آياته والتمعن في آلائه {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ } (20) سورة العنكبوت، {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (53) سورة فصلت.
كما يخبر، ويحذر، جل وعلا من غفلة أكثر الناس عن التفكر والتفكير في آيات الله وتدبر معانيها ومرادها {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (105) سورة يوسف.
إن كل حقائق الإسلام وكذلك في كل عبادة تعبد الله بها عباده، وكل دعوة دعاهم إليها، فهي تصرح عن مضمونها وتكشف عن معطياتها وثمراتها في الحياة الدنيا والآخرة. فالصلاة والزكاة والصوم والحج كلها مقدورة بطاقة الإنسان، وهي مشفوعة برخص ميسرة وليست أعمالاً آلية وإنما رياضة تربوية تُظهر الإنسان وتزكيه.
فالصلاة {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} (45) سورة العنكبوت فهي طهارة روحية وغسل داخلي، يسبقها الوضوء والغسل وهو طهارة جسدية، كل يوم خمس مرات.
والزكاة تزكية وطهارة {وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (39) سورة الروم. {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} (14) سورة الأعلى. والصوم وقاية وحماية وجنة {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (184) سورة البقرة. أما الحج المبرور فليس له جزاء إلا الجنة، فيعود المؤمن كيوم ولدته أمه.
وبينما أركان الإسلام الأخرى التي يقوم بها الفرد بمفرده وبينه وبين ربه كالشهادة والصوم والزكاة والصلاة وإن كانت الصلاة المفروضة يجتمع لها مع من حوله، فإن الحج هو ركن الإسلام الوحيد الذي يجتمع له المسلمون من جميع أقطار الأرض على صعيد واحد في يوم واحد ومشهد واحد عظيم. وقد تبين للمسلمين أسباب وعلة مناسك الحج من الطواف بالبيت الحرام، وسعي هاجر عليها السلام طلباً للماء لإنقاذ نفسها وابنها - سيدنا وأبونا إسماعيل عليه السلام، وزمزم التي أنبعها الله عز وجل بين قدمي إسماعيل عليه السلام آية منه خالدة، فكانت بركة وشفاء للمسلمين أبد الدهر (زمزم لما شرب له. ورمى سيدنا إبراهيم عليه السلام الشيطان في جمرات منى والإحرام هو رمز التخلص من زينة الدنيا وأوزارها وطبقاتها ليقف الناس سواسية أمام خالقهم خاشعين خاضعين إلا من وزار كوزار الكفن، والهدي والفدو ما افتدى به ربنا جل وعلا إسماعيل عليه السلام، يقفون يوم الحج الأكبر، يوم الوقوف بعرفات، ومن لم يشهد ذلك الموقف فلا حج له، فالحج عرفة. فما حكمته -جل وعلا- في الوقوف بهذا الموقع (عرفات) بالذات؟..
لننظر إلى أول الأنبياء والرسل وآخرهم (عليهم أفضل الصلوات والسلام).
لبث نوح عليه السلام أول الرسل في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم لتوحيد الله ونبذ الأصنام والشرك فما استجاب له إلا قليل، فدعا ربه - ودعوة الأنبياء مستجابة قال {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (26) سورة نوح. فكانت السفينة أول آية من الله عز وجل للإنسان على وجه الأرض، أن أرسل عليهم الطوفان الذي أغرقهم وأهلكهم جميعاً إلا من كان مع نوح في سفينته من الحيوانات والمؤمنين {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} (40) سورة هود، فكانت على ما أعتقد أول سفينة تصنع على وجه الأرض (وإن كان من يقول إنهم سخروا منه لأنه يصنعها بعيداً عن البحر) أوحى إليه ربه كيف يصنعها {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} (37) سورة هود. {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ } (24) سورة الرحمن. قارن قوله تعالى في الحديث القدسي: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) وقوله جل وعلا في محكم التنزيل {وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (80) سورة المؤمنون.
فمع علمنا اليقين أن كل شيء الله تعالى {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (107) سورة البقرة، فإن ما خصه تعالى بالذكر يؤكد ما له من شأن عظيم. ويسخر قوم نوح من هذا الذي يصنعه والذي لم يعهدوه أو يعرفوه من قبل {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} (38-39) سورة هود، {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} (42) سورة هود، {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} (13) سورة القمر، مسامير تشد الألواح فأوحى إليه ربه كيف يصنعها.
وقد أورد الله عز وجل عظيم نعمة الفلك على عباده في آيات عديدة منها: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ} (32) سورة إبراهيم، والنحل 14، والإسراء 66، والحج 65، والمؤمنون 22-8، والروم 46، ولقمان 31، وفاطر 12، وغافر 80، والزخرف 12، الجاثية 12. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (31) سورة لقمان. {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} (11-12) سورة الحاقة.
وبذا أنجى الله المؤمنين مع نوح {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (44) سورة هود. {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} (48) سورة هود
وتركها الله آية {وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (15) سورة القمر، {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} (78) سورة الصافات، {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } (15) سورة العنكبوت.
ولقد حاولت البحث والتقصي عن تلك الآية العظيمة الجودي، وأين ترك الله عز وجل السفينة، وعن الحكمة في موقع عرفات بسؤال أهل الذكر، وفي التفاسير، فوجدت التالي:
* عن الجودي قيل جبل معروف «بالموصل»!!
* أما السفينة فقيل إنها في «عرارات بتركيا»!!
* أما عرفات فقيل:
1 - إن آدم عليه السلام أنزل عليه من الجنة.
2 - إن حواء عليها السلام أنزلت عليه من الجنة.
3 - إن آدم تعرف على حواء هناك.
4 - إن المسلمين يتعرفون على بعضهم.
يقول د. عبد العزيز العمري من جامعة الإمام، الذي بذل جهداً كبيراً في تقصي مناسك الحج، إنه لم يثبت لديه صحة أي من هذه الأقوال.
ولذا فقد يكون الجواب (والله أعلم) أن سفينة نوح (عليه السلام) قد استقرت واستوت في موقع جبل الرحمة، ثم تراكمت عليها الصخرات الكبيرة التي جرفها الطوفان العظيم (كجلمود صخر حطه السيل من عل)، فغطت السفينة وأخفتها إلى أن يأذن الله جل وعلا بإظهارها للعالمين؛ فتكون آية خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فالملاحظ هنا أن «جبل» عرفات ليس جبلاً بالمعنى المعروف (أي طبقات متلاحمة متراكبة أو صخور متلاحمه)، وإنما صخور كبيرة متراكمة فوق بعضها البعض.
ومن المعلوم والمثبت علميا أن الصخور الكبيرة نقلت -وتنقل- من أماكنها وجرفت مسافات متفاوتة بفعل الطوفانات وبفعل عوامل تعرية الأنهر الجليدية ( GLACIERS).
فمحمد (صلى الله عليه وسلم)، خاتم الأنبياء والمرسلين، فلا رسالة بعده، آتاه الله أعظم الآيات وأجلها، القرآن العظيم الخالد أبد الدهر بحفظه تعالى. وقد يكون جل وعلا ايضا جمع للناس في شعيرة الحج، أول آية (سفينة نوح عليه السلام) مع آيات ابراهيم عليه السلام، ليكون يوم الحج الأكبر، يوم وقوف الناس على جبل الرحمة أو بجواره، {بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} (48) سورة هود، ليوقنوا عين اليقين، أنه رب الأولين والآخرين {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} (8) سورة الدخان.
(ملاحظة: إن صح الحديث عنه صلى الله عليه وسلم بما معناه: أن جبل الرحمة جاء يمشى حتى تستقر بمكانه، فإنه إشارة إلى صحة هذه الفكرة).
المقترح:
إن لهذه الفكرة جوانب عدة علمية وشرعية، واجتماعية، وأثارية. لا نجزم بصحتها أو خطؤها. فلو تطرقنا أولا للناحية العلمية من خلال بعض الاختبارات المبسطة بوسائل البحث العلمية التي تمكن من الكشف عن الآثار المدفونة (بدون حاجة للحفر) بتقنيات منها تقنية الرادار المخترق للأرض (Ground-Penetrating Radar) بإمكانات التصوير الأعماق تتزايد.
ومن المعلوم أن شركة أرامكو يتوفر لها خبرة عملية طويلة وجيدة عن التنقيب باستخدام تقنيات متعددة ومتقدمة.
ألم يأن للحق أن يُحق....
وللآيات أن تبصر.....
وللدين أن يسمو....
وللبلد أن يعلو....
والله الهادي إلى سواء السبيل. وندعوه هو البر الرحيم أن يجعلنا هداة مهتدين.
** **
- نائب رئيس مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية سابقاً