د. عبدالحليم موسى
ثمّة لحظات في حياة الإنسان لا يمكن قياسها بالمنطق العقلي وهي القدرة على التفكير والاستنتاج والحكم بطريقة منطقية، ولا تُفكّ شيفرتها بخوارزميات الحاسوب.
هنا نقف مع أنفسنا أمام لحظات تشبه الارتطام الأول بالحقيقة، حين يكتشف المرء أن ما يُطلب منه ليس ما يُشبهه. هكذا بدأت حكاية معاذ خالد الخميس، حينما أحس بهروب التفوق الدراسي من أمامه، فأصابته حالة اعتراض صامت على طريق لا يشبهه.
في كلية العلوم بجامعة الملك فيصل بدأت حكايتنا، حين كان صاحبنا طالبًا نموذجًا في الفشل؛ من خلال رسوبه في كل المقررات وكأن جسده يحضر بينما روحه تهيم في مكان آخر.
لكن ذلك الرسوب لم يكن سقوطًا، بل إعلانًا أوليًا من القدر أنّ هذا العقل لا يُغذّى بالمعادلات، بل بالحوار، بالدهشة، بالصورة، بالصوت، وبالسؤال الفلسفي الذي لا إجابة له.
في تلك العتمة المبكرة، لم يكن بحاجة إلى أستاذ، بل إلى مؤمن، فظهر الدكتور ظافر الشهري، عميد كلية الآداب آنذاك، لا كمُنقذ، بل كالمفسّر الذي قرأ احتمالات النجاة في إخفاق الخميس، وفتح له بوابة قسم الاتصال والإعلام، لا كتخصص أكاديمي، بل كمكان يشبهه؛ وقد كانت تلك اللحظة أشبه بانتقال كينوني من علوم المادة التي تناقش حقولاً من الفيزياء التطبيقية والكيمياء إلى علوم الاتصال.
وفي قسم الاتصال والإعلام، لم يكتفِ الخميس بالتعلم، بل أعاد تشكيل المكان والزمان؛ فجعل من قاعات الكلية خشبة صغيرة، ومن زملائه جمهورًا للتجريب، ومن كل فعالية حكاية تُروى، وقد امتدت بصمته إلى داخل كلية الآداب، حيث لم يكن الفن ترفاً في ظل وجود الدكتور ظافر الشهري، بل ضرورة وجودية. وهناك، بدأ ينسج مسرحه الأول عبر فعاليات الجامعة المتعددة.
أما في الأحساء، حيث كانت دراسته الجامعية، فقد كان من القلائل الذين لم يكتفوا باستيعاب المدينة، بل أثروا فيها. عبر نادي المسرح بجامعة الملك فيصل، وقد قاد حركة فنية طلابية شبابية، وترك أثراً يذكّرك أن المسرح حين يُمارَس بصدق، يتحوّل من عرض إلى حياة موات الأشياء وجمودها. كانت أعماله هناك – مع فرقة «رتاج» وغيرها – بمثابة بروفات فلسفية للذات قبل أن تكون عروضاً فنية.
هذا المسار الذي بدأ بـ»فشل أكاديمي مؤقت» وانتهى بـ«نجاح مسرحي استثنائي» لم يكن صدفة، وإنما جاء تجسيداً حقيقياً لفكرة أن بعض الأرواح خُلقت لتتعلّم خارج فصول الدراسة، ولتنجح عبر الانكسار وتصبب حبيبات عرق الشغف. لم يكن صاحبنا الخميس يومًا مخرجًا بالمعنى التقليدي، بل مُرشدًا بصريًا، يُخرج من النصّ ظلاله، ومن العرض أبعاده الخفية.
أعماله اللاحقة، من «الحقيبة» إلى «اختطاف» إلى الأوبريت الوطني «وطن العطاء»، ليست مجرّد عروضاً مسرحية، بل مرافعات روحية ضد السطح، ومحاولات لطرح أسئلة الإنسان الفلسفية من خلال جسد الممثل وصمت الجمهور. وفي كل مرة، كان يطرح سؤالًا وجوديًا: ما الذي يُمكن أن يقال عندما ينطفئ الضوء وينكشف المعنى؟
ربما كان الخميس هو الشاهد على أن السقوط الأول ليس إلا انحناءة لالتقاط البوصلة لتصحيح المسار، وأنّ الرسوب ليس نهاية دورة الحياة، بل بداية الحكاية حين تُكتب بالحبر الحقيقي؛ حبر الشغف الوجداني ، حتى أصبح الخميس يقف اليوم لا كمخرج فقط، بل كفيلسوف خشبة، يوقظ بالعرض ما تعجز عنه المحاضرات والندوات، ويهمس للمجتمع أن الفن العظيم لا يُقال، بل يظل شامخا كمسرحيات شكسبير وإن كانت من زمن القرون الوسطى.