م. سطام بن عبدالله آل سعد
لم تعد التنمية تقاس بتحقيق الأهداف، بل تختبر بمدى قدرتنا على قراءة المكان واستيعاب أبعاده. فقد تبدل السؤال التنموي التقليدي من: «ماذا نريد أن نحقق؟» إلى سؤال أكثر تعقيدا وعمقا: «أين نحقق ذلك؟ ولماذا هناك؟ وكيف؟ وهنا تبدأ رحلة نظم المعلومات الجغرافية (GIS) التي أصبحت بمنزلة «عقل تنموي مكاني» يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمكان، وبين البيانات والقرار.
تتداخل الجغرافيا اليوم في صلب كل عملية تنموية، من استثمار الأراضي، إلى توزيع الخدمات، إلى مواجهة الفقر والتلوث. فالفقر الذي كان رقما في تقرير، صار مساحة ترسم على خريطة. والتلوث له نطاقات وحدود. في حين أن النمو الاقتصادي لا يتوزع بالتساوي، إنما يتفاوت من منطقة لأخرى.
إن فهم هذه التفاوتات المكانية هو شرط لتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وهنا يبرز دور GIS، حيث يتيح هذا العلم ربط البيانات بالمكان، وتحليلها، واستخلاص أنماط وسيناريوهات تفضي إلى قرارات أكثر دقة واستدامة، تستند إلى الواقع لا إلى الانطباعات.
لكن التحول من البيانات إلى القرار، يعد مسارا معقدا يتطلب أدوات تحليل، ورؤى، ونماذج. وهذا ما تفعله نظم المعلومات الجغرافية، إذ تحول الكم الهائل من البيانات إلى خرائط معرفية تكشف الفجوات، وتحدد الفرص، وتوجه التدخلات التنموية. فلقد أثبتت نظم GIS فعاليتها في دعم السياسات العمرانية، والتخطيط الحضري، وإدارة الكوارث، وتوزيع المرافق، وتحديد المواقع المثلى للاستثمار، وهو ما يجعلها لاعبا رئيسا في هندسة التنمية الحديثة.
هذا الدور يصبح أكثر إلحاحا حين ننظر إلى رؤية المملكة 2030، التي تستهدف تنويع الاقتصاد، وتعزيز التنمية الإقليمية، وتحقيق التوازن بين المناطق. فنجاح هذه الرؤية الطموحة يتوقف على قدرتها على قراءة المشهد المكاني بدقة، ما الذي تفتقر إليه كل منطقة؟ وما الذي يميزها؟ وكيف يمكن تحويل الفجوة إلى فرصة؟ ونظم المعلومات الجغرافية توفر هذه الرؤية بوضوح، وتساعد في اتخاذ قرارات استراتيجية تعزز الكفاءة، وتقلل الفاقد، وتوجه الموارد حيث الحاجة الفعلية.
ومن أبرز التحديات التي تواجه العمل التنموي في أي بلد؛ غياب التنسيق بين الجهات، وتكرار المشروعات، وتضارب الاختصاصات؛ وهي مشكلات تنشأ في الأغلب من ضعف الرؤية المشتركة وغياب منصة موحدة للبيانات. وهنا تبرز قوة نظم المعلومات الجغرافية (GIS)، التي تقدم حلا جذريا لهذه الفوضى، من خلال بناء منظومة معلوماتية مكانية مشتركة تمكن الجهات الحكومية والخاصة من رؤية الصورة الكاملة والتفاعل معها بفعالية؛ ما يعزز من كفاءة التخطيط، ويقلل من فجوات التنفيذ، ويقود إلى سياسات تنموية أكثر تكاملا واتساقا مع المعطيات الميدانية.
في المحصلة، نظم المعلومات الجغرافية غدت ضرورة استراتيجية لأي دولة تسعى إلى تنمية متوازنة ومستدامة. فالمكان حين يقرأ بذكاء، يكشف عن خريطة جديدة للاستدامة، ويمنحنا القدرة على اتخاذ قرارات تفهم الأرض وتخدم الإنسان. وبينما تتسابق الدول إلى إدارة اقتصادها الرقمي، فإن من يدير معلوماته المكانية الرقمية بوعي وكفاءة، هو الأقدر على قيادة المستقبل.
** **
- مستشار التنمية المستدامة