طلال حسين قستي
تستقبل بلادنا المباركة هذه الأيام بالترحاب وفوداً متتالية من الحجاج لأداء الفريضة هذا العام 1446هـ، ومن المتوقع أن يصل عدد الحجاج هذا الموسم إلى حوالي المليون ونصف المليون حاج، فنحمد الله على ما خص به المولى سبحانه هذه البلاد المباركة بشرف خدمة الحجيج.
ونحن أبناء المملكة إذ نجتهد في خدمة الحجيج فإننا ندرك تماما أهمية مكانة الحجاج عند الله، وهم ضيوفه الذين قدموا من كافة ارجاء المعمورة لتلبية نداء الحج، والتزموا بكل طواعية وشغف للرد على النداء بالقول: (لبيك اللهم لبيك) وهم بكل الإيمان قدموا لبيت الله العتيق، ولبوا للخالق الكريم نداء الحج ذلك الذي أمر به سبحانه نبيه إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج: 27).
وفي تبيان هذا التوجيه الإلهي، وما صدر من تكليف لأبي الأنبياء، تذكر اللجنة الدائمة للبحوث العليمة والإفتاء في المملكة ما يلي: «أمر الله سبحانه وتعالى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد انتهائه من بناء البيت أن يؤذن للناس، وقيل في تفسيرها: أي ناد في الناس داعياً لهم إلى الحج إلى البيت الذي أمرناك ببنائه، فذكر أنه قال: يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا ، وقيل على أبي قبيس (جبل قريب من الكعبة)، وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك».
هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد وابن جبير وغير واحد من السلف (فتوى رقم 8/ 21/ 10).
ومما لاشك فيه أن الحج لبيت الله الحرام تصادفه مشقات عظيمة، لذلك قيل في الماضي: «الأجر على قدر المشقة»، وإذا تخطينا مراحل العصور الماضية التى ذكر نبينا ورسولنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أن جميع الأنبياء من بعد أبي الأنبياء إبراهيم عليهم السلام قد حجوا إلى بيت الله، وانتقلنا للعصر إلحالى، فقد اعتبر تأسيس وتوحيد المملكة العربية السعودية على يد المؤسس الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، هي بداية الفترة الذهبية في خدمة ورعاية ضيوف الرحمن، فقد اختفت المشقات، وحل محلها التسهيلات والرعاية وفى مقدمتها (الأمن) بفضل من الله ثم بجهود وعناية قادة المملكة ممن حرصوا على جعل رحلة الحج ميسرة لا مشقة فيها ولا عناء.
وهنا لابد أن نقول إن التاريخ يشهد أن رحلة الحج قبل قيام الدولة السعودية، كانت شاقة وفي أغلب الأحيان غير آمنة، والراجح فيها أن يتعرض الحاج للسلب والنهب وربما فقدان حياته، وكان الناس يتداولون أنه من عاد سالما من الحج فقد ولد من جديد، وسيكتب التاريخ بأحرف من نور أن هذه الدولة منذ قيامها كانت سلامة الحجيج وتيسير أدائهم للنسك في قمة اهتمامها، كما سنظل نذكر بكل فخر ذلك النداء فى الوثيقة التى كتبها المؤسس الملك عبد العزيز طيب الله ثراه في الأول من شعبان عام 1343هـ من مكة المكرمة، ووجهها إلى جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وهى الوثيقة التاريخية التي أكدت حرص عمل الدولة السعودية على تنظيم شؤون الحج، ورعاية الحجيج، وقاصدي الحرمين الشريفين، فكانت فاتحة عهد جديد لخدمة ضيوف الرحمن، حيث قال المؤسس طيب الله ثراه في هذا الخطاب:
«إننا نرحب ونبتهج بقدوم وفود حجاج بيت الله الحرام من كافة المسلمين في موسم هذه السنة، ونتكفل بتأمين راحتهم والمحافظة على جميع حقوقهم، وتسهيل أمر سفرهم إلى مكة المكرمة من إحدى الموانئ التي ينزلون إليها وهي «رابغ» أو «الليث» أو «القنفذة»، وقد استتب الأمن استتباباً منذ دخلتها جيوشنا، وسنتخذ من التدابير في هذه المراكز جميع الوسائل التي تكفل تأمين راحة الحجاج إن شاء الله تعالى (صحيفة أم القرى 3-8-1343هـ الموافق 27-2-1925م).
وكان تأمين الحاج من أولى أولويات المؤسس، وفي هذا الصدد يقول أمير البيان شكيب أرسلان رحمه الله في كتابه «الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف» في فصل بعنوان «الأمن الشامل في بلاد الملك العادل الإمام عبد العزيز آل سعود»، بعد أن يروي قصة العباءة التي سقطت منه عندما كان متوجهاً من مكة المكرمة إلى الطائف، وظلت ملقاة في على قارعة الطريق لا يجرؤ أحد على لمسها، ووصل خبرها إلى أمير الطائف الأمير محمد بن عبد العزيز الذي أرسل سيارة من الطائف أتت بها، وجاء يسألهم عما إذا كان فقد لهم شئ من حوائجهم أثناء مجيئهم من مكة المكرمة؟ فأجابوه بنعم، فقال لهم الأمير: هي عندنا وقص عليهم خبرها.
يقول أمير البيان شكيب أرسلان: «أتيت على هذه النادرة هنا مثلا من أمثال لا تعد ولا تحصى من الأمن الشامل للقليل والكثير في أيام الملك عبد العزيز مما لم تحدث عن مثله التواريخ حتى اليوم، وإنك لتجد هذا الأمن ممدود الرواق على جميع البلدان التي ارتفعت فيها راية الإمام ابن سعود، ولو لم يكن من مآثر الحكم السعودي سوى هذه الآمنة الشاملة الوارفة الظلال، على الأرواح والأموال، التي جعلت من صحاري الحجاز وفيافي نجد آمن من شوارع الحواضر الأوروية لكان ذلك كافيا في استجلاب القلوب إليه، واستنطاق الألسن في الثناء عليه، فاليوم تجد التاجر والفلاج، والحادي والملاح، والحاج القاصد على الضوامر أو على الجواري المنشآت، يتحدثون بنعمة هذا الأمن الذي أنام الأنام بملء الأجفان، وجعل الخلق يذهبون ويجيئون في هاتيك الصحاري، قد يكون معهم الذهب الرنان، وهم بلا سلاح ولا سنان».
وتحت هذه المظلة الوارفة الظلال أخذت أعداد الحجيج في الازدياد حتى وصل عددهم إلى 99 مليون حاج خلال 54 عاما ً(منذ عام 1390هـ حتى عام 1443هـ بحسب بيانات الهيئة العامة للإحصاء - نقلا عن واس).
وبشكل عام فقد أصبحت خدمة الحرمين الشريفين ورعاية قاصديهما من مهام المملكة وواجباتها المقدسة، تحت إشراف ورعاية قادة المملكة أبناء المؤسس الملوك سعود، وفيصل، وخالد، وفهد، وعبد الله رحمهم الله جميعاً، وامتداداً حتى العهد الحالي الزاهر بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وعناية ومتابعة سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان حفظهما الله، حيث تحقق الكثير من الإنجازات، التي أبهرت واستحقت تقدير المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وهي غيض من فيض في نطاق مسيرة التحسين والتطوير القائمة لخدمة ضيوف الرحمن وفق رؤية السعودية 2030.
** **
- رئيس تحرير مجلة الحج والعمرة سابقاً