عبدالوهاب الفايز
ربما الأبرز في زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للمنطقة هي كلمته في منتدى الاستثمار، فالكلمة كشفت عن رغبة في إطلاق (شرق أوسط حديث)، وهذه عقيدة سياسية جديدة للتعامل مع المنطقة. الجزئية التالية في كلمته توضح هذا، يقول:
«إنه أمر ضخم ليصبح معظم اقتصاد السعودية لأول مرة على الإطلاق من خارج قطاع النفط. فكروا في ذلك. الصناعات الأخرى الآن أكبر من النفط، الذي سيظل دائمًا وحشًا كبيرًا. ولكن هذا إنجاز عظيم لكم وللتنمية الاقتصادية عندما تُستخدم بشكل صحيح.
في مدن أخرى في جميع أنحاء شبه الجزيرة، مثل دبي وأبوظبي، الدوحة، مسقط، التحولات كانت مذهلة للغاية.
أمام أعيننا، جيل جديد من القادة يتجاوز النزاعات القديمة والانقسامات البالية من الماضي، ويؤسس لمستقبل يكون فيه الشرق الأوسط معروفًا بالتجارة، وليس بالفوضى، حيث يُصدِّر التكنولوجيا، وليس الإرهاب؛ وحيث يبني الناس من مختلف الدول والأديان والمدارس الفكرية المدن معًا، بدلًا من قصف بعضهم البعض حتى الفناء.
لا نريد ذلك.
ومن الضروري أن يلاحظ العالم الواسع أن هذا التحول العظيم لم يأتِ من التدخل الغربي، أو من أشخاص يطيرون في طائرات فاخرة لكي يعطوكم دروسًا في كيفية العيش وكيفية إدارة شؤونكم. اعلموا أن العجائب المتلألئة في الرياض وأبوظبي لم تُبنَ بواسطة ما يُسمى بُناة الدول أو المحافظون الجدد أو المنظمات غير الربحية الليبرالية. هؤلاء أنفقوا تريليونات الدولارات وفشلوا في تطوير كابول، بغداد، والعديد من المدن الأخرى.
بدلًا من ذلك، وُلِدَ الشرق الأوسط الحديث على أيدي أبناء المنطقة أنفسهم.
الناس الذين يعيشون هنا طوال حياتهم، ويطورون بلدانهم السيادية، ويحققون رؤاهم الفريدة، ويرسمون مصائرهم بطريقتهم الخاصة.
ما يُسمى بناة الدول دمروا أكثر مما بنوا. و(التدخليون) تدخلوا في مجتمعات معقدة لم يفهموها بأنفسهم حتى قالوا لكم كيف تفعلون بعض الأشياء، لكن لم تكن لديهم أي فكرة عن كيفية القيام بذلك بأنفسهم.
السلام، الازدهار، والتقدم جاء في النهاية ليس من خلال رفض تراثكم، بل من خلال احتضان تقاليدكم الوطنية واحتضان ذلك الإرث الذي تحبونه كثيرًا. وهذا أمر لا يستطيع فعله إلا أنتم.
لقد حققتم معجزة حديثة بالطريقة العربية. وهذه طريقة جيدة.
اليوم، أظهرت دول الخليج، لهذه المنطقة بأسرها، طريقًا نحو مجتمعات آمنة ومنظمة مع تحسين جودة الحياة، ونمو اقتصادي مزدهر، وتوسيع الحريات الشخصية، وزيادة المسؤوليات على الساحة العالمية.
بعد عقود طويلة من الصراع، أصبح بإمكاننا أخيرًا أن نحقق المستقبل الذي كانت الأجيال السابقة تحلم به. أرض من السلام والأمان والانسجام والفرص والابتكار والإنجازات هنا في الشرق الأوسط. إنه أمر جميل جدًا. شيء جميل جدًا يحدث الآن.
وأعتقد أن الأشخاص الذين يعيشون هنا ربما لا يدركون مدى جماله لأنهم يرونه يحدث أمامهم، ولكن عندما تزور مكانًا لم تره منذ خمس أو عشر أو عشرين سنة، يصبح الأمر أكثر إذهالًا.
عندما غادرت منصبي قبل أربع سنوات، كان ذلك المستقبل يبدو شبه مستحيل.
معًا، قضينا على قادة داعش.. مسحناهم من الوجود، وقضينا على مؤسسهم وزعيمهم، أبو بكر البغدادي. وقد نجحنا في رأب الصدع في مجلس التعاون الخليجي، وهذا أمر في غاية الأهمية. ووحدنا دول المنطقة للوقوف ضد أعداء الحضارة جمعاء».
* * *
هذه الجزئية من خطاب الرئيس تؤسس لحقبة جديدة من التفاهمات والشراكات القائمة على مبادئ واضحة. وهي أيضًا داعم لمن يرى أن زيارة الرئيس ترامب للسعودية، كأول رحلة خارجية في رمزيتها وفي مخرجاتها، توازي أو تقارب اللقاء التاريخي بين الملك عبدالعزيز، رحمه الله، والرئيس فرانكلين روزفلت عام 1945.
وربما نقول: التاريخ يجدد دروسه. الملك عبدالعزيز بدأ مشروع الوحدة في مرحلة تاريخية معقدة، وبحكمته أظهر قدرة استثنائية على ممارسة سياسة خارجية واقعية ومتوازنة. المؤرخون الذين درسوا التاريخ السعودي الحديث يرون أن سياسته في الحياد الإيجابي خلال الحرب العالمية الثانية كانت مفتاحًا لحماية المصالح السعودية، وتعزيز سيادتها، وبناء تحالفات استراتيجية ما زالت آثارها ممتدة حتى اليوم.
المؤرخون استخلصوا أن التجربة السعودية في تلك المرحلة تقدم نموذجًا مهمًا في كيفية توظيف الجغرافيا السياسية والإمكانات الوطنية لبناء دور إقليمي مؤثر، دون الوقوع في فخ الاستقطاب أو التبعية. والأهم أن الملك عبدالعزيز، بحكمته وبحياده الإيجابي، مكن بلادنا من الوساطة في النزاعات العربية الداخلية، والأهم أنها مكنت أبناءه من بعده على العمل بإخلاص ومحبة لدعم استقلال الدول الخليجية ووحدتها. وأيضًا ساعد بلادنا إلى الاتجاه للأعمار وحفظ الاستقرار الداخلي.
رحم الله الملك عبدالعزيز فهو الذي -بعد الله- مكن بلادنا لأن تتحول إلى قوة اقتصادية صاعدة، خيرها لشعبها ولشعوب المنطقة، تجمع ولا تفرق، تقدم المساعدات والهبات لأجل البناء والإعمار.. وهذا ما أكدته زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخيرة.
* * *
زيارة الرئيس الأمريكي كانت حدثًا تاريخيًا، ليس فقط لتجديد الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، بل لإطلاق رؤية لـ»شرق أوسط حديث» يوازن بين طبيعة المنطقة وتطلعات شعوبها، وبين المصالح القومية الأمريكية. هذه الزيارة حملت دلالات عميقة: غياب إسرائيل عن جدول الزيارة، واستقبال الرئيس السوري أحمد الشرع. هذه أثارت تساؤلات حول تحولات محتملة في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط.
نحن نرجو أن تكون هذه الزيارة بداية إيجابية للدور الأمريكي إقليميًا وعربيًا، وسيكون الدور السعودي المحوري الواقعي حافزًا للنجاح بعد أن أطلقت الزيارة توازنًا جديدًا في الرؤية الأمريكية للمنطقة، وجددت روح اللقاء التأسيسي للعلاقات الثنائية بين البلدين منذ العام 1945.
إعلان ترامب الأهم هو: دعمه لـ«ولادة شرق أوسط حديث»، وهي رؤية تؤكد على تمكين دول المنطقة من قيادة تطورها الاقتصادي والاجتماعي دون (تدخل أمريكي إيديولوجي).
الزيارة والخطاب يعكسان نهجًا واقعيًا يتماشى مع سياسته «أمريكا أولًا»، حيث ركزا على تعزيز الشراكات الاقتصادية، مثل صفقات الأسلحة بقيمة تزيد على 100 مليار دولار، ودعم مبادرات التحديث السعودية المطروحة في رؤية 2030. بعكس خطاب هيلاري كلينتون في منتدى المنامة 2011، حيث دعت خلال الخراب / الربيع العربي إلى الديمقراطية، وأكدت دعم الولايات المتحدة لـ»حقبة الشعوب». ترامب تجنب (المحاضرات) حول الحكم، مما طمأن الشعوب العربية وقيادتها إلى أن الإدارة الأمريكية ملتزمة بكل ما وعدت وهو: إنهاء الحروب.
هذه الرؤية توازن بين طبيعة المنطقة، التي تتطلب استقرارًا سياسيًا وتنمية اقتصادية، وبين المصالح الأمريكية القومية، مثل تأمين تدفق النفط، مواجهة نفوذ إيران، وتقليل التدخلات العسكرية المباشرة. ترامب أكد أن الولايات المتحدة «لن تسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي»، مشددًا على أهمية الجهود المشتركة مع الخليج لمواجهة نووي طهران، مما يعزز الشراكة الأمنية. هذا النهج يعكس تحولًا من الطموحات الإيديولوجية لإدارات سابقة إلى تركيز على المصالح العملية، مع احترام السيادة الإقليمية.
أثارت زيارة ترامب كذلك تساؤلات حول تحولات في السياسة الأمريكية، خاصة مع عدم زيارته لإسرائيل، وهي محطة تقليدية للرؤساء الأمريكيين، واستقبال الرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض. هذه الخطوات قد تشير إلى إعادة تقييم لأولويات واشنطن. غياب إسرائيل من الزيارة لا يعني تراجعًا عن دعمها، حيث يظل ترامب حليفًا قويًا لتل أبيب، لكنه قد يعكس رغبة في طمأنة العرب بأن أمريكا لن تُخضع المنطقة لأجندة إسرائيلية متطرفة، خاصة مع تصعيد حكومة نتنياهو الصهيونية المسيحانية، التي تسعى لإعادة تشكيل الشرق الأوسط عبر إدامة القلاقل والصراعات.
استقبال الشرع، وهو حدث فاجأ حلفاء إسرائيل في واشنطن، يُظهر دور السعودية كوسيط إقليمي، ويشير إلى نية أمريكية لإعادة الانخراط في سوريا دبلوماسيًا، ربما لموازنة النفوذ الروسي والإيراني. هناك من يتحفظ على هذه النوايا، فقد لا تعكس تحولًا من العزلة الأمريكية تجاه دمشق إلى سياسة أكثر مرونة، وأيضًا لا تعني تغييرًا جذريًا في الموقف من قضايا المنطقة، بل تعديلًا مرحليًا تكتيكيًا يخدم الاستقرار والمصالح الأمريكية. السعودية لم تلتفت للمخاوف، حيث دفعت بجهودها الدبلوماسية لتحقيق الحوار الأمريكي - السوري الذي أثمر عن رفع العقوبات، مما يبرز دورها كمحور للسياسة الإقليمية.
نجاح زيارة ترامب للمنطقة يعود إلى دور السعودية الاستثنائي، الذي تجلى في قدرتها على تحويل التحديات إلى فرص. القمة السعودية - الأمريكية عززت الشراكة الثنائية، ووفرت منصة للحوار الإقليمي، عبر ترتيب عقد قمة خليجية - أمريكية، وفي ترتيب استقبال الرئيس السوري. أيضًا في صفقات الأسلحة والاستثمارات التي أُعلن عنها تعكس ثقة المملكة في اقتصادها المتنامي؛ وكذلك دعم ترامب لرؤية 2030 يؤكد مكانة السعودية كقائدة للتحديث في المنطقة، فالرؤية السعودية الطموحة، تجمع بين القوة الناعمة واستثمار التأثير الاقتصادي لتشكيل شرق أوسط مستقر ومزدهر.