د.عبدالعزيز عبدالله الأسمري
منذ اللقاء التاريخي الذي جمع الملك عبدالعزيز بالرئيس روزفلت، ظلت العلاقات السعودية - الأمريكية إحدى ركائز التوازن الدولي. واليوم، وبعد عودة الرئيس دونالد ترامب إلى الرياض خلال ولايته الثانية، تدخل هذه الشراكة فصلًا جديدًا يتسم بالنضج والبراغماتية ويعكس تطور دور المملكة على الساحة الدولية. لم يأتِ الرئيس ترامب إلى الرياض باحثًا عن دعم عابر أو مجاملات دبلوماسية، بل جاء مدركًا تمامًا أن المملكة باتت لاعبًا لا يمكن تجاوزه في معادلات الإقليم والعالم، سواء في أسواق الطاقة، أو جهود تهدئة النزاعات، أو في رسم ملامح الاستثمار الدولي. لقد التقى بقيادة تدير ملفات المنطقة بحكمة سيادية، وتنخرط في التحالفات من منطلق الندية والوضوح الاستراتيجي.
لم تكن هذه الزيارة مجرد «محطة أولى» في جولة خليجية، بل كانت بوابة ضرورية لأي إعادة ترتيب في المشهد الإقليمي. فالإعلان عن رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، إضافةً إلى لقاء لم يكن معلن جمع ترامب بالرئيس السوري المدعوم من الرياض، شكّل رسالة واضحة بأن الحلول في الشرق الأوسط تمر اليوم عبر الرياض.
هذا التحول لم يكن وليد لحظة، بل ثمرة سنوات من الدبلوماسية السعودية الهادئة والمستمرة، التي ظلت منفتحة على مختلف الأطراف، في وقت أغلقت فيه عواصم القرار الغربية أبوابها أمام الحلول الواقعية.
اقتصاديًا، وقّعت المملكة اتفاقات استثمارية تتجاوز قيمتها 600 مليار دولار، شملت مجالات الدفاع، والذكاء الاصطناعي، والطيران، والتقنيات النظيفة. إلا أن ما يلفت الأنظار ليس حجم الصفقات فحسب، بل شروطها حيث لم تكن عقودًا استهلاكية من طرف واحد، بل شراكات استراتيجية تتمحور حول نقل التقنية والمنفعة المتبادلة بين الطرفين. فالمملكة لم تعد مهتمة بلعب دور الداعم للاقتصاد العالمي، بل تسعى للقيادة، انطلاقًا من أمن اقتصادي راسخ ورؤية 2030 الطموحة.
وأثناء استكمال ترامب جولته من الدوحة إلى أبوظبي، كانت الملفات التي حملها قد بدأت وفي كثير من جوانبها قد اكتملت في الرياض، سواء كان ذلك في الشأن السوري، أو مسارات التهدئة في غزة، أو البوادر الأولية لترتيب فلسطيني جديد. وهنا يتضح أن الرياض حركت ملفات كانت مجمدة لسنوات، فالسعودية لم تعد وسيطًا فحسب، بل مركز ثقل دبلوماسي قادر على تحريك المشهد وإعادة صياغة الأولويات الإقليمية.
اللافت أن الرئيس ترامب قدّم نفسه هذه المرة بصورة تعكس وعيًا أعمق بالتحولات الجارية في المنطقة. بدا وكأنه يعترف ضمنيًا بأن الشرق الأوسط يتغير بسرعة، وأن واشنطن لم تعد المهندس الوحيد لمستقبل المنطقة. فالسعودية لم تعد مجرد دولة مصدّرة للنفط؛ بل أصبحت لاعبًا أساسيًا في صنع القرار الاستراتيجي.
الرياض اليوم لم تعد تنتظر الفرصة، بل تصنعها وتُعيد تشكيل العلاقات الدولية من موقع الثقة المتزايدة والرؤية الاستراتيجية الواضحة، ممارسة دورها الإقليمي والدولي بثقة متصاعدة، مدفوعة برؤية واضحة تعيد رسم علاقتها مع الحلفاء والخصوم على حد سواء.