د. محمد بن إبراهيم الملحم
استكمالا للحديث عن رسائل هذا المسلسل الأعشى فقد كانت هناك عدة رسائل حول التدين والمتدينين، أولها أن المتدين مخادع ومنافق، فهذا سعد الذي «هداه الله» فقاده تدينه إلى هجر مسألة المواعدة مع بنت جيرانه عواطف، واعتذر لها عن مواصلة ذلك، يلتقيها صدفة بعد فترة ليقفز قلبه من مكانه ويحدق فيها، وهذه رسالة أن المتدين لا يصدق تدينه عندما يتعلق الأمر بالنساء! والرسالة الثانية حول انتساب بعض الناس للفرقة الضالة التي اعتدت على الحرم المكي وأنه يكون عن غير تدين بالضرورة أو وعي وفهم عميق، فهذا جزاع يقول لعزيزة إنه انتسب لهم لأنه فاقد لأية قيمة في المجتمع وليس لديه هوية ويشعر بالضياع فليس لديه شيء يملأ حياته أو أحد يهتم به، وهذا خلاف الواقع، فإن كثيرين ممن انتسبوا لهؤلاء كانوا أهل علم ودراسة وفهم وتدين ولهم قيمة في مجتمعهم، وإنما وقعوا في الفتنة وضلوا، وبعضهم وضع مؤلفا في ذلك، وهناك مقابلات مع ذوي العلاقة من رجال الأمن ممن تعاملوا مع هذه الفئة كشفت لنا أن من التحقوا بهم هم أناس لديهم فكر وتوجه ورسالة في المجتمع، ولذلك فهذه الرسالة فيها تشويه تاريخي لهذه الفرقة، وصحيح أننا ضد تلك الفرقة الضالة ولكن لا شك أن تشويه التاريخ بطريقة مكشوفة أمر لا يقبله المنطق السليم وإن كان في حق من أنت تعارضه ولا تتفق معه.
وردت أيضا رسالة مسيئة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أنها كانت تتسبب في قطع أرزاق الناس بعدم السماح للنساء بالبيع في البسطات، وهو أمر لم يكن مألوفا عن تلك الهيئة فلقد ظلت بسطات النساء موجودة منذ السبعينات وإلى يومنا هذا نشاهدها يوميا في الأسواق، نعم كانت هناك سلوكيات خاطئة وتجاوزات ومبالغات من بعض أفراد الهيئة في أمور أخرى إلا أن ما يتعلق ببسطات النساء لم يحدث، وإن كان تم كممارسة فريدة حصلت يوما ما وشهدها أو سمع بها من ألف القصة فلا يجوز أن تعمم بهذه الطريقة في سياق المسلسل لتبلغ رسالة مسيئة لهذا الجهاز الحكومي ومن يعملون فيه. كما لوحظ أيضا تصوير رجال الهيئة وأنهم في كل مكان فلا يمكن لأحد أن يتنفس، حيث ما إن يحدث حدث ما في القصة إلا ونجد رجل الهيئة قد طلع للشخص صاحب ذلك الحدث، وليس واحدا في الواقع بل يأتون اثنين أو ثلاثة، وكأنهم متواجدون في الحارة 24 ساعة وفي كل مكان وزاوية من زوايا الحارة! «بدري بيك أبوكلبشة» في مسلسل صح النوم الشهير لم يتمكن من فعل ما فعله هؤلاء في حارة سكيرينه بشارع الأعشى!
من الجدير بالذكر أنه بالنسبة للسلوكيات الخاطئة التي مارسها بعض أفراد الهيئة وكذلك ما حدث من تطرف لبعض أفراد المجتمع الذين تدينوا في تعاملهم مع بعض المظاهر التي ينكرونها ويرفضونها مثل كسر آلة العود أو تكسير تلفزيون البيت وحرمان العائلة من مشاهدته أو حرق الصور التذكارية باعتبار التصوير حرام فكل ذلك جدير أن يكون محل توثيق بالأعمال الدرامية التي تتناول تلك الفترة لكنما ذلك التطرف الديني لا ينبغي أن يعالج دراميا بتطرف مماثل في الجهة المعاكسة، فيقدم في مشاهد تبالغ وتضخم أو تكون بطريقة ساخرة لا تمت للواقع بصلة، فالفن الراقي هو الذي ينجح في تصوير الواقع بصدق ودقة، بالنسبة لنا فقد وعينا على الأفلام والمسلسلات المصرية المتقنة الأبيض والأسود والتي صورت لنا الواقع في مصر وكأننا نعيش في شققها وقراها وغيطها وريفها وقصورها ومراكز شرطتها ومستشفياتها، فإذا زرت مصرا لم تشعر أنك غريب عنها، هذا هو التصوير الدرامي الصادق والواقعي، وهو ما ينبغي أن تهتم به الدراما السعودية خاصة في هذه المناطق الحساسة وذات الإشكالية.
ولا شك أن تقديم تلك الصور المتطرفة في الأعمال الدرامية مطلوب ليفيد منه الجيل الجديد فلا يقع فيما وقع فيه من قبله، ولكن لا يجوز أن يكون ذلك بعيدا عن الصدق والواقعية، ولنتذكر جميعا أن ما كان يمارسه هؤلاء المتطرفون لم يصدر من جميع أفراد الهيئة دون استثناء بل هو من أفراد منهم، كما إنه قد كان من بين أفراد الهيئة من لم يكن مقرا لما أحدثه بعض زملائه من التصرفات. بل كان كثير من أفراد المجتمع المتدينين ضد ما يفعله متدينون آخرون، وهذا الوعي المجتمعي بالتطرف يتم تناقله من جيل الآباء إلى جيل الأبناء ومن بعدهم بطريقة صحيحة فإذا تجاوز العمل الدرامي الحقيقة وزورها بقصد الإفراط في بث كراهية المجتمع لهذه التصرفات فإنه بهذا يقضي على رسالته هو كعمل فني لأن المتلقي لن يتقبلها كرسالة مشوهة غير صادقة.
أخيراً مسلسل «شارع الأعشى» كما قدمت هذه السلسلة من المقالات أصابه من عنوانه عشى ليلي فوقع فيما وقع فيه من مبالغات ومغالطات وتشويه للصورة وعدم واقعية وبث رسائل سلبية متعددة، كما أصابه ما أصاب غيره من المسلسلات التاريخية المحلية من ابتعاد عن الدقة في تصوير واقع الفترة الزمنية التي تجسدها القصة سواء من خلال عدم تلاؤم بعض المشاهد «القديمة في فكرتها وأشيائها المادية» مع معطيات التاريخ الذي تدعي تصويره، أو عدم اتساق بعض جوانب السيناريو والحوار مع ألفاظ وتصرفات تلك الفترة، ويضاف لذلك ما شوه جمال المسلسل من عدم تناغم لهجات بعض الممثلين والممثلات مع ما تتطلبه الشخصية التي يؤديها كل منهم، وما فيه من حشر لبعض الشخصيات غير ذات الأهمية للسياق مما أدخله في الحشو والتكرار الممل.
إن ما خلقه المسلسل من حالة الدهشة والإعجاب تمثل في تناوله لفترة ذهبية يحبها كل المشاهدين، لاسيما أن لهم تجربتهم القريبة مع العاصوف، كما أن أحداث قصة المسلسل خلت من التعقيد فتناغمت مع حياة كل مشاهد، وأخيرا تمحورت القصة حول شخصيات شبابية (عزيزة، عواطف، مزنة الخ) فأوجد ذلك له جمهورا شبابيا كبيرا لن يهتم بما قدمته أنا من ملاحظات قد لا يدركها وربما لا تهمه لو اكتشفها، ذلك أنها ليست جزء منه باعتبار الفترة العمرية لهذا المشاهد.
** **
- مدير عام تعليم سابقا