د.حصة بنت زيد المفرح
كانت الطبيعة، وما زالت مصدر إلهام للشعراء على اختلاف عصورهم، واتجاهاتهم الفنية، لكن ربطها بالهوية لا يتأتى إلا بالإمعان في تفاصيلها، وكيف يمكن أن تتحول إلى علامة دالة على الهوية الوطنية، وجسر وجداني متين بين الشاعر وأرضه.
ومن بين عناصر الطبيعة التي يمكن الوقوف عليها لاستجلاء هذا التعالق، تأتي (الخزامى) في شعر الأمير خالد الفيصل مكونًا مهمًا من مكونات تمثيل هوية الوطن، يعكس الارتباط المكاني والعاطفي فيه، ويُوظّف رمزًا شعريًا دالاً على الهوية، والجمال الأصيل، والحنين إلى المكان، والارتباط بطقوسه؛ بحيث لا تغدو (الخزامى) زهرة عابرة، وخلفية جمالية فحسب، بل هي كيان ينبض بالمعنى، ويترجم عبيرها إلى انتماء، ويتحول لونها إلى رمزية متجذرة في تربة الهوية السعودية الأصيلة؛ فقد كان الفيصل شاعرًا، وفنانًا، ووطنيًا، تغنى بالوطن في قصائده، ولامس رموزه العميقة، وكانت الخزامى جزءًا منها.
في قصيدته (عاشق خزامى) يستحضر عاشق الخزامى هذه النبتة التي كانت، وما زالت ذات صلة بوطننا؛ بلونها البنفسجي الجميل الذي اتخذ لونًا معتمدًا في المراسم، والمناسبات الثقافية، ورائحتها العطرة، وهي جزء من ثقافة المكان؛ فعشق الخزامى لم يكن إلا عشقًا للمكان الذي نبتت فيه، وهو مكان البدوي الأصيل الذي يتخذ من بيت الشعر والبر موطنًا له ولأهله، ثم يمضي في استعراض رموز البيئة بين الثرى الغالي، وسقف السماء العالي، وما تشهده البيئة من حضور حيواناتها من ظباء، وسرب القطا، وروضاتها الغناء، ونجومها المضاءة في تجربة شعرية جميلة تقول: إن وطننا جميل بكل ما فيه.
«لا تسألوني ليه أنا
عاشق خزامى مستهام
إذا عرفتوني أنا
تدرون وش سر الغرام
أصلي أنا بيتي شعر
والبر هو ديرة هلي
فرشي ثرى وسقفي سما
وترابها غالي علي
أشفق على خزة ظبي
في طعس من فوق الغدير
ومشاهدة سرب القطا
من روض للثاني يطير
الله على شمس المغيب
والليل إلى نسنس هواه
الضو تقدح بالجمر
والنجم يقدح في سماه»
واستكمالاً لصورة الانتماء الوطني وتأصيل الهوية؛ فإن الخزامى تأتي في سياق هذا الحضور البيئي المتنوّع ترسيخًا للعلاقة مع الطبيعة، ورموزها المتأصلة في الوجدان الجماعي، وإثباتًا لشعور الفخر الذي لا يتأتى إلا بالرموز الدالة على الهوية الوطنية، وإذا كانت (البداوة) رمزًا حاضرًا في سياق الفخر بالوطن؛ فإن الخزامى لا تقل عنها بوصفها رمزًا جماليًا (شكلًا ولونًا ورائحة) يؤكد السياق نفسه، ثم يجتمعان في توليفة قيمية تمثِّل ملامح الهوية السعودية. وتصبح الخزامى معادلًا شعريًا للكرامة، والسيادة، والخصوصية السعودية؛ فتسهم في تثبيت الهوية لا بوصفها مفهومًا نظريًا وشعارًا يردد فحسب، وإنما بوصفها وجدانًا يتشكّل ويتجدد؛ ليتجاوز الهوية الفردية إلى الهوية الجماعية (ديرة هلي) التي تشكل بدورها الهوية الوطنية؛ فالوطن جامع لنا تحت مظلة هذه الهوية.
والشاعر في هذه القصيدة- كما بدا من عنوانها- لا يتحدث عن نبتة الخزامى فحسب، بل عن نفسه بوصفه إنسانًا منتميًا إلى هذه الأرض التي احتضنتها؛ فهو عاشق لها، والعشق ليس موجهًا لها فحسب، وإنما لما تمثّله من ارتباط بالأرض، والذكريات، والهوية الثقافية. وهو بهذا التقديم (لا تسألوني ليه أنا عاشق خزامى مستهام) يؤطر لهذه الهوية عبر ملمح مهم من ملامحها (العشق)؛ مما يعني أن الانتماء ليس شعارًا يردد، بل هو حالة شعورية متأصلة في الوجدان.
ويعتمد الشاعر صورًا حركية تجسد الحياة البرية البدوية؛ فيتفاعل مع حركة الظباء، وسرب القطا، ويعلن حرية الانطلاق في الصحراء، والشوق الذي لا تحده حدود؛ بما يعكس أصالة الروح البدوية. ويمضي في استحضار عوالم البيئة التي يتعالق فيها بيت الشعر مع الأرض والسماء، والتراب والهواء، والليل والنهار، كما أن العيش في (البر) ليس مجرد حالة واقعية، بل هو فعل رمزي يعكس روحًا بدوية حرة تجسد ملامح الشخصية الوطنية الأصيلة. وتستكمل الصورة الشعرية الكلية (الله على شمس المغيب) في توظيف ألفاظ أخرى تعانق الفضاء: الشمس، المغيب، النجم، النسيم، النار؛ فكلها تتحرك، وتتنفس، وتشعل الذاكرة؛ ذاكرة المكان والإنسان.
وقد يتجاوز الشاعر وصفها الطبيعي المجرد في قوله:
«هب نسناس الهوا لي من شمال
حامل ريح الخزامى والنفل»
ليربطها بالشمال، وهو اتجاه جغرافي، لكن رائحة الخزامى ومعها النفل تتحول إلى رائحة هواء يحمل الذاكرة والحنين، ويعزِّز شعور الانتماء للهوية الوطنية عبر حس الرائحة؛ لتتشكل ضمن هذه العلامات المرتبطة بالسكينة والحب، والشعور بالانتماء، وخصوصية الهوية الثقافية؛ فالخزامى لا تظهر منفردة، بل في منظومة وجدانية ترتبط بمكان محدد (الشمال) ثم امتداده إلى المنطقة التي وصل إليها، ووسيط محدد(الهواء)، وإنسان محدد (الشاعر نفسه)، وهذه الثلاثية هوية متجانسة تختصر الوطن، وحينها تتحول الخزامى في علاقتها به إلى صورة مصغرة للهوية المحلية المتصلة بالأرض والوجدان. وتصبح (زهرة الخزامى) ذاكرة المكان ونداء الحنين، والريح ليست مجرد تيار هوائي، أو رائحة تعبر معه، بل رسالة تحمل توقيع الأرض، وعبيرها المختوم بالخزامى.
وبالتأمل في الخزامى، وكيف تتحول من لفظ دال على (زهرة نباتية) إلى كيان شعري وجمالي؛ فإن الشاعر يوظف حاستي: الشم، والشعور الجسدي (الهواء، والعطر) في صورة مركبة حسية؛ فالنسيم رسول قادم من الشمال يحمل معه رائحة الخزامى كما لو كان ساعي بريد الحنين، والشمال ليس جهة جغرافية فحسب، بل هو حاضن للذاكرة، وكأنه يتحرك نحو الشاعر لا العكس. ثم يستدعي نباتًا من البيئة نفسها (النفل) ليرافق الخزامى في حضوره الجمالي والعطري، ولعل تقديم الخزامى عليه مؤشر على الأهمية، والإيحاء بالأكثر ندرة؛ ما يجعل حضوره أكثر التصاقًا بالذاكرة ومنابع الحنين. والفيصل هنا ليس شاعرًا جغرافيًا يتتبع تضاريس المكان ونباتاته، بل يعيد تشكيلها في صور شعرية نابضة بالحنين والانتماء والحب، والرائحة ليست رائحة مجردة، بل رائحة توقظ الحنين، وتعيد تشكيل العلاقة بالمكان؛ رائحة متحركة تتحول معها التجربة الشعرية إلى تجربة حسية حيَّة.
ولأن الخزامى تنمو في أمكنة نقية بعيدًا عن صخب المدينة الحضارية؛ فإنها تكون وسيلة للنقاء الروحي، وتأصيل الانتماء، حين تكون رفيقة للشاعر ضمن شبكة من (الخلان) الذين يشكلون وجدان الشاعر في قوله:
«أنا والصحاري والمطر والفرس والطير
ونبت الخزامى والظبي والشعر خلان»
حيث تتحول الخزامى إلى هوية متناغمة مع عوالم بيئية متنوعة: الصحراء، والمطر، والطير، والحيوان (الفرس والظبي)، وكلها تمثّل هوية الشاعر البيئية والثقافية، وتتأكد دلالة الخزامى بوصفها عنصرًا من عناصر التكوين الشخصي للشاعر، ثم تكوينه الوطني؛ فهي ليست زهرة عابرة، بل هي امتداد لحضور الذات في المكان، وصورة من صور التعلق بالأرض (الوطن)، وحالة شعورية متجذرة في البيئة نفسها.
وتتناغم مفردات الطبيعة مع الإنسان (أنا) بما يعزِّز الجانب الإيقاعي، ويمنحها بعدًا إنسانيًا وعاطفيًا طالما كانت مع الشاعر بمنزلة (خلان)؛ فأنسنة الطبيعة ووضعها في قائمة الخلان؛ تجعلها كائنًا شعريًا حيًا، وجزءًا من هوية الشاعر، عوضًا عن تماهي الذات بالبيئة بوصفها جزءًا من بناء الهوية الوطنية التي تجمعها.
وقد يمتد أثر الخزامى إلى الروح، وتتشكَّل في لوحة حسية جديدة تجسد الجمال النجدي في الحركة والرائحة والنعومة حين يقول:
«تستاهل الحب نجدية
رفيعة الشأن عجابة
والعين ياعين بحرية
لقلوب الأحباب نهّابة
والجيد يا جيد ريمية
تجفل من الزول لعابة
والريح يا ريح وسميه
نبت الخزامى تثنى به
صفيت مع صافي النية
يوم الذي صابني صابه
ما عاد لي روحة أو جية
وقف هوانا على بابه»
إذ تتحول إلى موسيقا عاطفية روحية؛ فتدرك بالبصيرة والبصر، وتتحول من تجربة شعورية إلى مشهد مرئي، كما أن ربطها بالرائحة يجعلها صورة متجددة للحياة والبيئة في القلوب والأرواح أيضًا. والمزج بينها وبين الهوية الأنثوية في القصيدة نفسها (تستاهل الحب نجدية) يوحي باستخلاص معالم جمال هذه الهوية من البيئة نفسها، ومن هويتها الطبيعية السعودية النجدية.
ولا يفوت الشاعر استحضار الرائحة الزكية للخزامى. لكن هذه الرائحة لا تأتي مجردة من مشاعر أخرى ذات ارتباط بالحب وخصوصية المكان (الصحاري)، ودلالة العبور واختراق الذات (وقف هوانا على بابه) في توازن شعري بين القوة في الرقة، والثبات في العبق. وهكذا تتحول الخزامى إلى لغة حنين، وصوت وطن، وصورة شعور، تستدعى للتعبير عن الانتماء؛ وكأن الهوية هنا تعيش في تفاصيل الطبيعة، وشذى ترابها الأصيل؛ لتكون شعورًا متجذرًا في الأرض والذاكرة معًا. وتتجاوز الخزامى دورها البيئي الطبيعي لتغدو رمزًا للوطن في وجدان الشاعر؛ فحين يكتب عنها فهو يكتب عن عطر مكانها، وجمال المحبوبة المنتمية إلى المكان نفسه، وانعكاسها في ملامح هذه الزهرة الجميلة؛ بما يعكس شعرية الحس المحلي، والذوق الثقافي الخاص.
ولعل طابع الأنوثة هنا يمنح الخزامى حركة جسدية ناعمة تضفي عليها جمالاً أنثويًا خاصًا، وتتبدى هذه الحركة في الفعل (تثنى) الذي ينعكس في صورة مرئية تعكس الرقة، والحركة الانسيابية بين الأنثى/ المرأة والأنثى/ الزهرة، وحينها تتحول الخزامى إلى كائن أنثوي يتحرك بجمال، ويندمج مع الريح؛ فالريح تُنادى، والخزامى تتثنى؛ بما يضفي على المشهدية رقة أنثوية وجمالية، لكنها تظل صامدة عميقة الجذور في تربتها.
وهكذا؛ فإن (الخزامى) لا تستحضر بمفردها، بل ترافقها عناصر الطبيعة؛ لتشكيل الصورة المتحركة للرائحة التي تخرج من الأرض، وتعبر مع الريح، وتعانق السحاب، وتنتشر مع النسيم وهبوب الريح؛ لتتحول إلى حامل شعري للذاكرة والانتماء. ويتجاوز حضورها البعد الوصفي المادي؛ ليصير بناء شعريًا مركبًا من: المكان، والزمان، والعطر، والصوت، والشكل، واللون، وهي لا تذكر في سياقها الطبيعي فحسب، بل وفقًا لوظيفتها العاطفية أيضًا. وبهذا تتأسس الهوية الوطنية من داخل الطبيعة لا من خارجها، وتتغذى على مناخاتها العاطفية، وتتحول إلى حالة شعورية تُشم، وتُلمس، وتُعاش.
وبعد، لم تكن (الخزامى) في قصائد خالد الفيصل زهرة عابرة يفوح عبقها في جنبات القصيدة، ويجمل لونها أطيافها، بل هي أيقونة شعرية جمعت بين روح المكان، وصدق الانتماء، وحضور الذات الشاعرة. كما استطاع (عاشق الخزامى) أن يحول هذه النبتة الصحراوية إلى مفتاح جمالي متكامل من (العطر، الصوت، المكان، الإنسان) للتعبير عن الهوية الوطنية السعودية، ويجعل منها مرآة تعكس عشق نجد، والحنين إلى الصحراء، وشموخ الروح الوطنية. ومعه تتحول الخزامى إلى وثيقة رمزية تعبر عن هوية شاعر، وأرض، وأمة تنطق بالعطر، والشعر، والانتماء الوطني.
** **
- جامعة الملك سعود