د.عبدالإله موسى آل سوداء
يُخَطِّئُ بعضُ اللغويين المعاصرين في استعمالَ كلمة (الكفاءة والكفاءات) بالهمزة، للدلالة على الاقتدار في أداء الشيء، وذلك حين يُقال: (فُلانٌ لديه الكفاءة العلمية أو الكفاءة المهنية لأداء العمل) أو (المعلمون لديهم كفاءة في التدريس)، أو(هؤلاء الطلاب ذوو كفاءةٍ عالية) ويَـرونَ أنّ استعمالها بالهمزة لهذا المعنى خطأ حيث إن (الكفاءة/الكفاءات) تَعني النظير والمماثِل والمساوي، والصواب من وجهة نظرهم إذا أردنا التعبير عن معنى القدرة والجدارة أن نقول: (فُلانٌ لديه الكفاية العلمية أو الكفاية المهنية لأداء العمل)، و(المعلمون لديهم كِفايةٌ في التدريس)، و(هؤلاء الطلاب ذوو كِفايةٍ عالية).
ويُشارُ في هذا الصَّدَد إلى أنّ كلمَـتَي(كفاءة) و(كِفاية) تُستعملان على نطاقٍ واسع في العلوم المعاصرة، ويُلحَظُ أنهما في السياق المعاصر تَدُلان على معاني مُحددة، تَشتركان في بعضها، وتَفترقان في معانٍ أخرى، وهو شكلٌ من أشكال التطور اللغوي للمفردات، الذي يَطال معظم لغات العالم الحية.
ويُمكنُ التمثيل على ذلك، بمعنى الكلمتين في المجال الإداري والاقتصادي، حيث تُتَرجَمُ (الكفاءة) إلى Efficieny، وتُتَرجَمُ: (الكفاية) إلى Adequacy، وقد استقرّ المفهومان على أنْ يُراد بـ(الكفاءة) إنجاز الأداء بفعالية وبأقل موارد ممكنة من وقتٍ وجهدٍ ومالٍ وطاقة، أو يُعنَى بها تحقيق أقصى استفادة من الموارد بأقل مجهود، فقد يُوصَفُ مُـحَرِّكٌ ما، بأنه كفءٌ أو ذو كفاءة؛ لأنه يَستهلكُ وقودًا أقل مع أداءٍ أعلى. أما (الكِفاية) فاستقر مفهومها على التمكّن من إنجاز الأعمال بمستوىً متوسط وبطريقةٍ مقبولة، فيُوصَفُ الشيء بأنه كافٍ إذا حَقق الحد الأدنى من المطلوب مع عدم التميز في الأداء.
وفي السياق التربوي التعليمي تَكـثُـرُ تَعريفات (الكفاية) مصطلحيًّا، ولكنها لا تشير إلى الحد الأدنى من القدرات، كما أنّ بعض الكتب التربوية التعليمية تُـلغي أيّ إسهامٍ دلالي لكلمة (كفاءة) في سياق التربية والتعليم، وتَرى خَطَأَ استعمالها في السياق التربوي، وأنّ كلمة (كِفاية/الكفايات) هي الصحيحة، ثم يُعَرّفون (الكفاية) بتعريف عامٍ فضفاض لا يُحَدِّدُ دلالتَها المهمة، مع أن دلالتها المهمة وهي(الحد الأدنى من القدرات والمهارات) تَرِدُ ضِمْنًا في عديدٍ من سياقات التعليم مَوصوفًا بها المعلم أو الطالب أو المقرر، فهي حين تَـرِدُ يُـقصَدُ بها غالبًا مفهوم (الكفاية Competency) بدلالته المعاصِرة الـمُكْتَسَبَة من عِلمي الإدارة والاقتصاد، أي أن المُعَلّمَ تَـحَـقَّـقَ فيه الحدُ الأدنى من المهارات والقدرات المطلوبة. وبناءً على هذا يكون معنى قولنا مثلاً: (الكفايات اللغوية) أي أساسيات اللغة العربية الواجب على كل طالب تَعلمها، وإذا أتقن الطالبُ هذه الأساسيات بما تشتمل عليه من معارف ومهارات وقيم؛ يَـصِحُّ وصفه بأنه طالبٌ ذو كِفاية أو لديه كفاية، والمعلمُ مِثْلُه تمامًا.
ولكنّ الحاجة تزداد لوضْعِ لفظٍ يُصطَلَحُ عليه للدلالة على (الحد الأعلى المأمول من الأداء أو من صاحب الأداء)، ولن تُوجَدَ أفضل من كلمة (كفاءة/كفاءات Efficieny) للتعبير عن ذلك، فهي في رأيي صحيحةٌ لغويًّا، ويَـسُوغُ استعمالُها للدلالة على تَمَيُّز الشيء وتفوقه في الأداء، ذلك أن معنى الكفاءة هو: المماثلة والمساواة، والشيء الذي يُوصَفُ بأنه كفء، يُقصَدُ به أنه حقق القدر المأمول منه، وهذا القَدْر المُحَقَّق أو المتحقِّق يماثِلُ ويكافئ القَدْرَ المأمول منه وهو قدرٌ عالٍ مُرتفع؛ فيصح حينئذ أن يُقال: كان أداؤه ذا كفاءة، أي كُفئًا للمأمول منه، ومِنْ ذلك ما يُعرَفُ قديمًا عند الفقهاء بـ(الكفاءة في الزواج)؛ فكأن (الكفاءة) توحي بمنزلةٍ مرتفعة.
وأيضًا أرى أنه يصح لغويًا استعمال عبارة (كان أداؤه ذا كِفاية) لتدلَّ على: تحقيق الحد الأدنى من المطلوب وليس حدَّ التميز، بالنظر إلى أن معنى كلمة (كفاية) جاء من الاكتفاء، إذ يُقال: كَفَاهُ الشيء يَكْفِيه؛ إذا استغنى به عن غيره، ثم تطورتْ دلالتُها إلى (القدرة على أداء الشيء)؛ ثُم تطورتْ دلالتُها في بعض مجالات العلوم المعاصرة لتصير بمعنى (القدرة على تحقيق الحد الأدنى من المأمول، أو القدرة على إنجاز أساسيات الشيء دون إبداع أو تميز)، وهذه الدلالة الحديثة تتناسب مع الدلالة المعجمية لمفردة (الكفاية)، تلك الدلالة التي تُفيد معنى: (القَدْر الكافي من الشيء)، والقَدْرُ الكافي يُغني صاحبَه، ولكنْ قد لا يُرضيه بالضرورة؛ فيكون الأداءُ ذا كِفاية، حين يحقق القدر الكافي فحَسْب، وهذا القَدْر الكافي أو الحد الأدنى يُـحَدِّدُه المُختصون كلٌ في مجاله، والأمر نفسه في تحديد الحد الأعلى من المأمول. وعندئذٍ سيَـصِحُّ لنا قَـول: (هؤلاء المعلمون من ذَوي الكِفايات) للدلالة على أنّ المعلمين حَـقَّقَوا المهارات والقدرات الأساسية لممارسة التدريس، وكذ لك في قولنا: (التلميذُ لديه كفاية علمية)، أمّا لو قيل: (التلميذ لديه كفاءة علمية) فيُفهَم من ذلك أنه متميزٌ في مجاله فضلاً عن تحقيقه للمهارات والقدرات الأساسية، ويقالُ مثل هذا في وصف المعلمين والموظفين ووصف الأشياء التي يُنتظَر منها تقديم أداء معين.
ومن الجدير بالذكر أنّ مَجْمَعَ اللغة العربية بالقاهرة يُجيز استعمال (الكفاءة) بمعنى (الكفاية) أي: القدرة والجدارة عمومًا، وهو بهذا الرأي يَـختلفُ مع من يُـخَـطِّئُ استعمال كلمة (كفء/ كفاءة/كفاءات) للدلالة على القدرة والجدارة، إلا أنه من الملحوظ أنّ الـمَـجْـمَعَ لم يَعْرِض لمسألة الفروق الدلالية الدقيقة بين المفهومين، ولم تَنكشف له حاجةُ علوم العصر للتفريق بينهما، وقبُول ما شُحِنَتْ به كِلا الكلمتين (الكفاءة والكفاية) من دلالاتٍ لا تتناقض مع دلالتها المعجمية.
وختامًا، يُـلحظ جليًا قدرةُ اللغة العربية على استيعاب المفاهيم الجديدة، ذلك أنها لغةٌ مرنة، ولديها القدرة على الانسجام مع مستجدات العلوم العصرية الحديثة، ولا يحتاج الأمرُ من المتخصص إلا أنْ يَـفْلي صفحات المعاجم اللغوية القديمة ويولّد منها ألفاظًا تُناسبُ المفاهيم المستجدة، أو يُعيدُ تعريفَ ألفاظٍ استقرت دلالتها في ذهن المتلقي على معنى معين، وذلك دون مساسٍ بأصول اللغة أو قواعدها المتفق عليها.