سليم السوطاني
أتأمل بعض الظواهر الاجتماعية، التي بدأت تنتشر بين فئة من أفراد المجتمع، بغصة وحسرة، وتحديدًا التي تخص صفة الجود، هذه الصفة التي اشتهر بها كثير من العرب من قديم الزمان، وبذلوا كثيرًا من أجل أن يُعرفوا بين النّاس بكرمهم.
لن أعود إلى التاريخ والتحدث عن كرماء العرب وسرد قصصهم، لكنني سأركز على هذه الصفة اليوم في مجتمعنا، وما وصلت إليه حال بعض الناس في زمننا الحاضر؛ ولا سيما من يملك المال الوفير، فبات يسعى جاهدًا إلى تسلق المجد من طريق هذه الخصلة، طمعًا في الفخر والشهرة، فيوجّه إلى وجهاء المجتمع، من رجال دولة، وعلم، وأعمال الدعوة إلى مائدته، التي يغدق عليها لتمتلئ بكل ما لذ وطاب من الخيرات، ويتعمد نشر الصور التي تذيع خبر استضافته وإكرامه لسادة القوم.
هذا النموذج الوصولي هو نفسه، في الجانب الآخر، نجد بابه مغلقًا أمام البسطاء، فلا يحتفي بهم ويمد لهم الموائد، ولا يثير اهتمامه دعوتهم أو الاحتفاء بهم، بل لا يكاد يأبه لهم، ربما لأن هذه الفئة لا تقدم له الصيت الذي يحلم به!
وفي المقابل نجد نموذجاً آخر يكرم الجميع بلا استثناء، ولا يفرق بين صغار القوم وكبارهم، ولا يسعى إلى صيت يذاع عنه ويخبر عن جوده، بل إنه ربما يكرم من عدم، بعكس النموذج الأول الغني.
تتفاوت المسافات بين النموذج الأول والثاني، مهما تزينت الموائد، وعظمت، وكبرت الأكتاف أو صغرت، فمن جهة القيمة الإنسانية نجد سمو الأخلاق والجود الحقيقي واضحًا عند النموذج الثاني، إذ يدفعه كرم نفسه وسمو روحه إلى البذل والعطاء من دون مقابل، وبلا تفريق بين ذي مكانة اجتماعية أو عامّي، فقد تربت نفسه على الجود والسخاء وتطبعت به، فصار يبذل ويجود من دون انتظار الجزاء على ذلك.
أما الذي يوجّه بذله وعطاءه إلى فئة عليا من البشر -كما يحسبهم- ويختصهم بكرمه دون سواهم، وهدفه من ذلك هو الـ«قفز» إلى سماء المجد والصيت، فهو شخص واهمٌ، ومهما غاص في هذا الفعل وأكثر منه فلن تشعر نفسه بالسعادة، وسيظل يلهث خلف الوهم الذي يعمي بصيرته، يحسب نفسه كبر في عيونهم، في حين أنه، في نظر أصحاب العقول الواعية والنظرة الثاقبة، مجرّدُ باحث عن صيت، صغيرٌ يريد أن يكبر من خلال مائدته، ووضيع يسعى إلى العلو على أكتاف الوجهاء، ولا يرون جوده إلا عيبًا تتسربل به نفسه القبيحة، ويحضرني بيت لأبي تمام ينطبق على هذه النوعية، إذ يقول:
لذلك قيل بعض المنع أدنى
إلى مجدٍ، وبعض الجود عار!