علي حسين (السعلي)
يقول محمد صادق عبدالعال في إحدى كتاباته:
لحظة التنوير
عندما تتراكم السُّحب في صفحة السماء الزرقاء الصافية، وتتجمع أشتاتُها، وتغيب شمس النهار؛ ليختلط الأمر على كثير من الناس: بليل نحن أم بنهار قد غيَّبَ شمسَه سحابٌ مركوم؟ فإما أن تشرق الشمس، وإما أن تهطل الأمطار، وإما أن تعود السماء لما كانت عليه، فكذلك لحظة التنوير في العمل الأدبي.
وكلمة التنوير مصدر من الفعل «نوَّر» بتشديد الأوسط؛ أي: تعمَّد التنوير، والتنوير وقت إسفار الصبح وانبلاجه، ويقال:
نوَّر الصبحُ: أسفر وظهر نورُه.
نوَّر الشجرُ: خرج نُوَّارُه.
نوَّر المكانَ: أضاءه.
نوَّر المصباحَ: أضاءه.
نوَّر الرأيَ: أوضحَه وبيَّنه.
أما بالنسبة لتعريف المصطلح، فلقد عرَّفه كُتَّاب ونُقَّاد بتعريفات كثيرة، اخترنا منها على - سبيل الذكر لا الحصر - تعريفًا يقول:
«إنها لحظةُ الكشف، أو اللحظة الجامعة، حيث تتجلَّى الفكرة، ويصل الانطباع قمتَه، هو وقوع تغيُّرٌ جذريٌّ يرافقه اهتزاز، أو ارتجاج، أو مفاجأة، وربما التقاء هذه الألوان جميعًا».
و»لحظة التنوير»: مصطلح نقديٌّ أطلقه الدكتور «رشاد رشدي» رحمة الله عليه، فقد كان واحدًا من أبرز النُّقَّاد في الستينيَّات، قال: إن لحظةَ التنوير في العمل الأدبي هي: (النقطة التي تتقاطع فيها كلُّ علاقات القصة القصيرة، ويبرز معناها ومغزاها في آنٍ واحد).»
أسئلة مهمة قبل الانطلاق
هل تغيَّرت لحظة التنوير بين زمان وزمان وكيف؟
لماذا لم يتم تغيير «التنوير» ظلّت كما هي أم تبدلت اسماً وبقي معنى؟
ما مدى المقارنة بين أمثلة الشعراء تنويرياً «زمكانية» والآن؟
أين أكثر وضوحاً تنويرياً في القصة أم الشعر؟
لحظة التنوير
هي انفراج في فلسفة النص الأدبي بعد متاهة مشوّقة للقارئ كالسماء المتوشحة بالسواد وفجأة تميط لثامها بوجه قمري في ليل الدجى وهتَّان يزيِّن السماء زرقةً وغالباً تُسمّى قفلة النص، ختامه، نهايته وهكذا والأعم والأقرب تتساوى لحظة التنوير مع نهايات النصوص الأدبية
الزمان والمكان في لحظة التنوير.
بلا شك أن لحظة التنوير في عصور تالية لها بمعنى أن المسمى اختلف وبقي المعنى واحداً رغم تعددية مسمياتها باختلاف زمانها ومكانها وهذا يعدّ تحدياً مهماً في القادم من الأزمنة والسؤال: لماذا اختلفت المسميات ولا يزال المعنى راسخاً؟ لأن جمال النص الأدبي بتسلسل معناه ترابط غير مخل ولا فجّ قد لا يصل وإن نجح البطل سارداً لكن القارئ لم ولن يكترث بالنهاية التي جاءت في آخر النص الأدبي! هنا مسألة مهمة من وجهة نظري.
لا بد أن يكون النص الأدبي يمشي ببطء مع تشويق من حوله إلى لحظة الوصول حتى لا يفقد متعة الرحلة بتفاصيلها الإبداعية واتجاه بوصلة النهاية في إرسائها على شاطئ المتلقي والناقد معاً.
الاختلاف التنوير بين الكلاسيكي وما بعد ألفين
إن النص الأدبي شِعْراً خاصة في الأدب الجاهلي وما تلاه حتى ظهرت الموشحات أندلسياً الوقوف على الأطلال ثم الغزل وأخيراً لحظة التنوير في الختام وغالباً ما تكون حكمة أو نصيحة أو مثلاً يسري مع الركبان لكن تطورت لحظة التنوير مرتبطة بالتطور في كل زمان ومكان وبدأت القصيدة منذ البدء حتى الانتهاء موضوعاً واحداً طيلة الأبيات كلها، وهذا ما جعل للقصة الشعرية حضورها وفق وحدة النص والمعنى موضوعياً ولعل من أجملها اقتراباً امرئ القيس ووضوحاً في بيت:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وفي وصف الجبل لابن خفاجه قوله:
وارعن طماح الذؤابة باذخ
يطاول أعنان السماء بغارب
والحطيئة في بيت:
وطاوي ثلاثاً عاصب البطن مرمل
لم يعرف بها ساكن رسما
وإن لاحظنا أن القصة حاضرة في الشعر لأنها لازمة القصة فظهرت لحظة التنوير، أما بعد عصر ألفين القرن الواحد العشرين فأصبحت القصة حاضرة وبقوة في القصيدة الشعرية، بل لا تكاد تقرأ نصاً شعرياً حتى تجدها حاضرة وبقوة وإن اختلفت لحظة التنوير بين شاعر وشاعر باختلاف ثقافة العصر بتقنياته، لحظة التنوير في عصر ما بعد ألفين الزهراني والصيخان
نص «عذّب كما تهوى» لحسن الزهراني، النص الأول:
جاء المُحب لخله بفؤاده
في كفه ودماءه تتصبب
قال اقبل القلب الجريح هدية
يا من بظُلمك خافقي يتعذَب
وكفاك تعذيباً لخلٍ مخلص
تُسقيه كأس الموجعات ويشرب
فتناول المحبوب قلب مُحبه
ورماه فهو على الثرى يتقلب
فإذا دماء القلبُ تكتبُ صدفةً
عذِب كما تهوى فأنت مُحبب
هنا اكتملت لحظة التنوير أو دعنا لنقل: الصدمة الشعرية التي أحدثها الشاعر في ختام هذا النص بشطر فريد ووحيد «فإذا دماء القلب تكتب صدفةً ..»
هنا فلسفة وصورة شاعرية رومانسية متقنة وكأنك أمام قصة فيها تقريباً كل تقنيات القصة مقدمة عرض عقدة ختام أو نهاية القصة الشعرية.
نص «بورترية لامرأة محطمة لعبد الله الصيخان:
أكلما هممتُ أن أجردَ المرودَ من مكحلتي
يَرِف جفنُ عيني
فمن ترى قد آب
لا حبيب لي ولا مسافرين
والذي أود لم يُبِن
ولم أبن له حنيني
في هودجي
ْأشكو كآبة الخيامِ.. والخطام
واليدَ التي تقتادني.. وتقتفي ظنوني
أشكو هماجَ الماءِ في سنيني
ْكأنما المرآة أختي التي أُشيرها في الأمر
وكلما ساءلتها.. تقول خبريني
وكلما هممت أن أجرد المرود من مكحلتي
تساقط الفرسان.. من جبيني
هنا الشاعر بنفس نص الزهراني اكتملت تقريباً عناصر القصة فالأدوات بسيطة «المرود من المكحلة، رفّ الجبين هنا إسقاط على مخيلة شعبية مثل من تفركه يده فيقول: خيراً لعل ستأتيني نقوداً، الهودج هنا حفلة وجمل وعروس، هماج الماء هنا تعكر صفو الماء وهكذا حتى لحظة التنوير القفلة سموها ما شئتم بقوله:
«تساقط الفرسان من جبيني « هنا ذكرى من الجنود الوصاية من سنين مضت لا نملك حيال هذا النص إلا أنه نص فاتن بامتياز بدءاً ونهاية حرّك مشاعر القارئ بإسقاطات من خلال شعبية المرود والمكحلة وصف شاعري وفلسفة شعرية باذخة.
الختام
نص حسن الزهراني رومانسي مغرق فيه حدّ الدهشة.
نص الصيخان وصف دقيق باستجرار حكاية شعبية متقنة.
في النصين وصف دقيق، وملامح القوة تتساوى بين الشاعرين من حيث وحدة المعنى والموضوع وأزيد فلسفة امتدادية منذ امرئ القيس وصف الخيل والليل وابن خفاجة في وصف الحبل والحطيئة في وصف حكاية الفقير والفقر ولكن عندهم كلاسيكي قصة شاعرية واقعية بينما عند الصيخان والزهراني قصة خيالية باتكاء الشعبي بإسقاطات الماضي والحاضر والقادم إن لحظة التنوير التي دعا إليها بديع الزمان الهمداني في مقاماته تتسق مع شاعرية الزهراني والصيخان ولعل الأخير آكد من مثل:
أشكو كآبة الخيام.. والخطام
هنا السجع واضع ومشبع ومتقن بينما نص الزهراني فيه الحوارية أكثر وإن قلّ قال وقالت لكن المعنى في القصيدة واضح وفريد ونستطيع أن نطلق عليها أنها اكتملت القصة الشعرية رغم أن نص الصيخان فيه حوار لكنه قليل من مثل:
وكلما ساءلتها.. تقول خبريني